المخابرات إلى واجهة سوريا من جديد

تحدثنا في مقال سابق عن خطة تقودها روسيا وتدعمها دولة عربية، لتطبيع علاقة نظام الأسد مع أشباه الدويلات القائمة في سوريا اليوم، وهي الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا ومناطق سيطرة الحكومة السورية المؤقتة في شمال البلاد، ومنطقة سيطرة هيئة تحرير الشام في شمالها الغربي. وفي هذه الأيام، تجري محاولة مشابهة في جنوب البلاد لإعادة الارتباط مع مجتمع محافظة السويداء الخارج عن سيطرة النظام فعلياً منذ العام 2014. والسؤال الذي سنحاول الإجابة عنه هنا: ما الذي سيلي هذه المساعي، وإلى أين تتجه؟

يمكن تلمس أفق إجراءات النظام الحالية، المعتمدة على تدخل روسي، بمعاينة الحالة في جنوب سوريا، بالاعتماد على نموذج درعا كنموذج مُنتهٍ، ونموذج السويداء كنموذج قيد التشكل. ففي درعا، بدأ ما يسمى بالمصالحة بمنح “تأجيل إداري” للشبان الذين انخرطوا في فعاليات معارضة، يتيح عدم ملاحقتهم لمدة محدودة، وقد استغلها معظمهم لاستخراج جوازات سفر ومغادرة البلاد. أما مَن تبقى منهم، فاعتُقل أو جرى اغتياله بطريقة غامضة، أو التحق بصفوف قوات النظام ليصبح إحدى أدواتها في القمع والتنكيل بالسوريين وبأبناء منطقته التي يتحدر منها على وجه التحديد. ويبدو أن هذا هو المصير الذي ينتظر شبان السويداء، المعروض عليهم التسوية الحالية. فوفق احصائيات النشطاء المحليين في السويداء، ثمة ما لا يقل عن 25 ألف شاب من المطلوبين للخدمة العسكرية أو الفارين منها، و ولم يحصل هؤلاء سوى على وعود بنوع من “تأجيل إداري” رفضته الفعاليات الدينية والاجتماعية في المحافظة، لخشيتها بأن يكون باباً لتسرب شبان الطائفة الدرزية ورحيلهم. وعُرض عليهم من ناحية أخرى، الخدمة في الفيلق الأول الذي تنتشر وحداته في جنوب سوريا بالعموم، فيما رُفض مقترح خدمة أي شاب في المحافظة. ورفض ممثل النظام، حسام لوقا، مدير إدارة المخابرات العامة، منح أي تعهدات تضمن عدم ملاحقة ومعاقبة المطلوبين بعد إجراء تلك التسوية، كما رفض مناقشة مسألة تحسين الأوضاع المادية أو المعيشية والخدمية في المحافظة.

وفحوى ما يعرضه النظام على أهالي السويداء، هو ذاته الذي عرضه على أهالي درعا، أي “صك غفران” مؤقت ريثما تخترق السلطة الأمنية والمخابراتية المجتمع وتلف حبالها على أعناق الفاعلين الاجتماعيين والسياسيين، “لتسوي الأوضاع” بعد ذلك بطرقها المعهودة، وهي الاخضاع الاجتماعي العام تحت التهديد الأمني. ويمكن سحب هذا المثال إلى المناطق المماثلة في شمال وشمال شرقي سوريا، خصوصاً في منطقة سيطرة “قوات سوريا الديموقراطية”، وهي الأوسع والأكثر استحواذاً على الثروات النفطية والزراعية، وقد عمدت منذ أشهر لبث شبكاتها في تلك المنطقة مُستغلةً الشرخ القومي بين العرب والأكراد.

لقد رفضت غالبية فعاليات السويداء العروض المقدمة لها حتى الآن، لكن لا يبدو أن للمجتمع ولا لفعالياته رفاهية الاستمرار في الرفض إلى زمن طويل. فمناحي الحياة كلها متوقفة عملياً، والأوضاع المعيشية والمادية تزداد سوءاً، مع تصاعد الانفلات الأمني وتفاقم حالة انعدام الأمل. وفيما لو تشبث النظام بالسقف الذي قدمه حتى الآن، وهو قادر على ذلك بحكم إنه لن يخسر الكثير جراء تعنته في الظروف الحالية، فستأتي بلا شك اللحظة التي تُجبِر فيها الظروفُ الضاغطة أبناءَ السويداء على القبول بالأمر الواقع.

ويقودنا هذا المثال إلى رسم خطاطة أولية للمرحلة التالية التي تنتظر المجتمع السوري. فبعد عزله إلى حيزات مختلفة، لكل منها ملفه الخاص، ستجري عملية إخضاع وتجنيد مَن يمكن تجنيده لصالح بقاء النظام. بينما يتم نبذ وطرد كل تلك القوى والأفراد المناهضين له، وهم فعلياً القوى الحية في المجتمعات المعنية، والتي تم إفراع البلد منها على نحو ممنهج منذ العام 2011، سواء بالقتل أو الإخفاء القسري أو التهجير، وفق سياسة رأس النظام المعلنة التي سمّاها “المجتمع المتجانس”.

الملمح الثاني الذي بدأ بالظهور وسيتعزز في الفترة المقبلة، هو عودة الهيمنة الأمنية كأداة أولى بيد النظام، وتراجع دور القوى العسكرية والمليشيات المسلحة، والذي سيتبعه بالضرورة انسحاب متسارع للقطعات العسكرية من المشهد. وهذه محاولة واعية من النظام وداعميه لإضفاء صفة الاستقرار على البلاد، ونزعة غير واعية لاستعادة حالة السيطرة الشاملة لما قبل الثورة.

من السمات البارزة أيضاً للخطة التي نلمحها في الأفق، محاولات القائمين عليها نزع الصفة الطائفية عن النظام، وتحويله إلى قوة ما فوق طائفية، أي إلى صيغة وطنية ما، كمدخل للاستحواذ على الشرعية. وذلك من خلال التعامل مع خصومه كجماعات ذات مطالب طائفية، مثل دروز السويداء وسُنّة الشمال، أو جماعة ذات مطالب قومية مثل الأكراد، وحشر هذه الفئات في هذه الخانة الضيقة، والتمسك بحصر “الوطنية” في طرف واحد، حتى لو كانت تلك الحصرية تقتصر على الجانب الرمزي، كرفع العلم السوري، مقروناً، ما أمكن، بصورة بشار الأسد.

باختصار، يحضّر نظام الأسد ومَن يساعده اليوم، البلاد لانفجار جديد. فهو لم يتغير بأي مقدار كان، ولا يحسب أي حساب للحاجات الأساسية الأولية لأولئك الذين سيطر عليهم بالقوة والعنف. ويظنّ أن تحييده للقوى الحيّة في المجتمع، عبر تهجيرها، سيمنع تشكل قوى جديدة، ويتجاهل أيضاً أن جوهر حالة الرفض له لم تكن في أساسها عسكرية، بل سياسية ومدنية، وأن سيطرته العسكرية بمساعدة روسيا وإيران، لن تعني بأي حال من الأحوال انتهاء الرفض العميق له. فنصف المجتمع السوري، على الأقل، في الضفة المناوئة له، في المنافي والمهاجر، وهو سيبقى كذلك إلى زمن طويل، ستتغير خلاله الرياح وموازين القوى ذات يوم بالتأكيد.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا