السياسة الأميركية وقانون قيصر

اشترطت السياسة الأميركية في سورية، أخيرا، ولتسهيل الحل السياسي، ربطه بقرار مجلس الأمن 2254، وبخروج إيران من سورية، ودعم إشراف روسيا على سورية، ومحاربة بقايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ودعم قوات سورية الديمقراطية (قسد) وحزب الاتحاد الديمقراطي (البايادي). وبخصوص تركيا، مكّنت أميركا تركيا في شرق سورية، ودعمتها في إدلب، وكذلك في ليبيا. وأميركا بذلك تدعم تركيا من ناحية وروسيا من ناحية أخرى؛ فالأخيرة أيضاً أصبحت شرق سورية، ومكّنتها من قبل، استعادة درعا.

ليس جديداً هذا، ولو شاءت غيره أميركا لفعلت. ولنتذكّر حينما لوّحت بتدخلٍ عسكريٍّ ضد الجيش السوري في لبنان، فخرج مولياً الأدبار، وكذلك حينما صعَّدت ضد الأسلحة الكيميائية، فسلّمها النظام السوري فوراً. أميركا التي استقر وجودها في شرق سورية، ولم تعد تتأرجح بين مغادرة سورية والبقاء فيها، اقتنعت بأن البقاء في سورية لا يكلفها شيئاً يُذكر، ويسمح لها بمراقبة كل من تركيا وإيران وروسيا ذاتها، وفي الوقت نفسه، تعطي لكل هذه الدول ولسواها الوقت الطويل لتتصارع، وتتهالك! وتستقرّ في مشكلاتٍ لها أوّل وليس لها آخر. لنلاحظ حال إيران المفلسة، وهي تغوص في مستنقعات العراق وسورية واليمن ولبنان وحتى غزة، وكذلك لنلاحظ تركيا التي رفع ترامب عنها العقوبات، كيف تتقدّم في سورية وليبيا والعراق، على الرغم من أن عملتها تعاني بشدّة، والخلافات السياسية الداخلية تتعقد أكثر فأكثر، والأمر ذاته يسري على السعودية والإمارات، وبالتحديد في اليمن وليبيا، وهما تحاولان دعم النظام السوري و”قسد” و”البايادي”.

تراقب الولايات المتحدة المشهد بأكمله، وتدعم هذه الدولة أو تلك، وتورّطها هنا وهناك، وتستنزف اقتصاديات هذه الدول، وفي النهاية: ماذا سيحصل؟ لن تتمكّن أيٌّ منها من الاستيلاء على اليمن أو ليبيا أو سورية. علينا التمهل في فهم أبجديات سياسة أميركا هذه جيداً، والآن يأتي قانون قيصر ليضيف أداة ضغطٍ جديدة على دول المنطقة، وليس على النظام السوري فقط، ذلك أن آثار القانون تتعدّى الشعب السوري، لتشمل المنطقة بأسرها. سيتأثر النظام بالضرورة، فهو سيختنق بدرجةٍ كبيرة، سيما أنه لا يساعد نفسه من أصله، حيث يتشدّد ضد كل أفراد الشعب السوري الذين خارج سيطرته ومن تحت سيطرته، فهو لا يسمح بإعادة الإنتاج الزراعي في الغوطتين مثلاً، وفي درعا أيضاً، كما كانت من قبل.

إفلاس خزينة الدولة السورية، وضعف الإنتاج، والضغطان، الروسي والإيراني، عوامل ستجعل من قانون قيصر الذي يعطي لأميركا الحق بمراقبة كل صلاته الخارجية، وبين مناطقه والمناطق الواقعة تحت سيطرة “قسد” أو تركيا، عاملاً رئيسياً لمفاقمة الوضع الاجتماعي وبنية السلطة كذلك، وستشكل عاملاً ضاغطاً على روسيا، للتفكير مليّاً بخياراتها التحالفية مع إيران، أو مع الشخصيات الرئيسية في النظام السوري. لا قدرة للروس على مواجهة قانون قيصر، وكل السياسة الأميركية في سورية، وهذه السياسة أصبحت مستقرة، وبالتالي أصبح من اللغو بمكان أن يكرّر الروس أنهم شرعيون في سورية وسواهم محتل! يدعم هذه الفكرة أن روسيا ذاتها أقرّت لتركيا بمناطق واسعة في سورية، وتنسق مع الأميركان بشكل حذر في شرق سورية، وهي ذاتها من تسمح لإسرائيل بقصف المواقع الإيرانية في سورية. وبذلك، بعد أن حددت الولايات المتحدة سياساتها في سورية، يقع على روسيا الضعيفة أن تتقدّم بمبادرةٍ تتجاوز ثرثرات اللجنة الدستورية، أو إبقاء الوضع في الثلاجة إلى الانتخابات الرئاسية في سورية 2021، أو “مكابشة” أميركا في سورية، وتجاهل آثار قانون قيصر، وقطعه العلاقات الخارجية مع النظام السوري، وهذا يشمل لبنان والعراق والإمارات والأردن وسواها.

لنفترض أن الروس، وعلى عادتهم، رفضوا الذهاب إلى تطبيق قرار مجلس الأمن 2254، كما يرغب ويكرّر الساسة الأميركيون، وأن ذلك هو حبل الخلاص لهم، وبدونه فإن قانون قيصر لن يُعلق، وعقوباته ستفاقم الوضع، والروس سيتورّطون في أرض سورية وقد أصبحت مستنقعاً، وهو ما قاله المبعوث الأميركي إلى سورية، جيمس جيفري. وقد قرّب الرفض الروسي الشروط الأميركية للتغيير في سورية، ومنذ سنوات، بين تركيا وأميركا، وأجبر روسيا على الاعتراف لتركيا بدورٍ مركزيٍّ في سورية، والآن في ليبيا، وإذا استمرت روسيا في الرفض، فقد تخسر حتى ما حصلته من النظام السوري ذاته، وبالطبع سيطرد السوريون الروس في المستقبل. المشكلة هنا أن نتائج الرفض الروسي ستزيد معاناة السوريين، داخل سورية وخارجها. في الداخل ستتفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية بشكلٍ مهول، سيما بعد عشر سنوات من الفشل، وبعد إبعاد رامي مخلوف عن الاقتصاد والنظام، وتهديده بأن الاقتصاد سينهار وهو ما يحدث الآن، وبالتدريج.

تدير أميركا الصراع، ولم تعد تفكر بالانسحاب، وهي تترك للدول المحيطة بسورية الفرص لتوسيع سياساتها هنا وهناك، وكي تتورّط وتغرق في المشكلات، وهي جميعها فاشلة وطنيّاً. ولهذا أسبابه المحلية والعالمية، والقضية لا تُفسّر بآثار كورونا أو انخفاض سعر النفط فقط، حيث تأثرت اقتصاديات الدول بهما، إنما تكمن في سياسات أميركا الشعبوية، والصراع مع الصين، والتأزم الكبير في الاقتصاديات العالمية والسياسات العالمية. دلالة ذلك، يمكن رصده في مراقبة الخلافات بين أميركا وأوروبا، وبين أميركا وروسيا، وبين أميركا والصين، وهكذا.

الوضع الاقتصادي والاجتماعي السوري متدهور بشدة، ومنذ سنوات، وهناك تدخل روسي إيراني كبير في البلاد، وفي تفاصيل السلطة السورية، ويشمل ذلك الجيش والأمن، وحتى مؤسسة الرئاسة. وإذا كانت روسيا تحاصر إيران وبالتدريج، فإن المطلوب أميركيا إخراج إيران من سورية. يخوض الروس معركتهم مع إيران بالتدريج في سورية، وفعلاً يستولون على مناطق واستثمارات كثيرة، وأصبحوا اللاعبين الأكبر في التفاصيل أعلاه. وبالتالي، في مقدور روسيا أن تستجيب للشروط الأميركية، والتي من ضمنها تسليم سورية لها! وبالتالي هل تعي روسيا الشروط المعقدة التي حاكتها لنفسها في سورية؟

القيصر الأميركي في مواجهة القيصر الروسي، وهذا يفاقم معاناة الشعب السوري التي تعلمها جيداً أميركا، بل مصلحتها في تدمير سورية كما فعلت في العراق، وهذا سبب مركزي لصمتها عما حدث في سورية، منذ 2011 خصوصا. ولم تتدخل إيران أو حزب الله أو روسيا أو تركيا في سورية إلّا بغطاءٍ أميركي. وعلى الرغم من التراجع النسبي لسيطرتها على العالم، ما تزال أميركا تدير الصراعات فيه، إن لم نقل تقودها. في سورية، ومع قانون قيصر وقبله، كل سياسات أميركا، وبدءاً بمنع إسقاط النظام، أو عدم تسليم المعارضة سلاحاً مضاداً للطائرات، وما ذكر أعلاه، نقول تلك السياسات، كان غرضها تدمير سورية، وعلى المستويات كافة. قانون قيصر يفاقم مأساة سورية، ويعطي للأميركان ورقة جديدة، للضغط على دول المنطقة وابتزازها أكثر فأكثر، حيث ستضطر كل دولة تتعامل مع النظام السوري أو مجاورة له، وتقيم علاقات تجارية معه بموضوع الأدوية أو الأغذية وسواه، أن تأخذ الأذن من الأميركان تحديدا.

الكرة عند بوتين، فهل يغير من سياسات دولته، وقد أحكمت أميركا الخناق عليه في سورية، وأعطته إمكانية رفع الحبل عن عنقه، وضمها إلى إمبراطوريته؟. لنرَ.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا