الطائفية في سورية..ذراع للاستبداد السياسي وتدمير للوطنية

لا يمكن الحديث عن الطائفية بصورة عامة دون معرفة جذرها اللغوي ودلالته، فمعنى “طائفة في معاجم اللغة العربية تعني “جزء من الشيء”.

ويعرّف المفكّر الفلسطيني الراحل سلامة كيلة الطائفة بأنها” هي المجموعة البشرية التي لديها معتقدات دينية تشكّلت في الماضي”.

ويمكن أن يكون التعريف التالي لمفهوم الطائفة على أنها: (فرقة أو جماعة يجمع أفرادها مذهبٌ واحد)، وهذا لا يعني أن يكون المذهب دينياً فحسب، بل ربما يكون فكرياً، أو غير ذلك من عوامل تتمحور حولها مجموعة أو فرقة من الناس في شرطها التاريخي.

تظهر ثقافة الطائفة كتنوعٍ وغنىً في حالة عدم التوظيف السياسي لها، فالطوائف الدينية في سورية، أغنت الثقافة السورية كمنتج نهائي، حيث يمكن اعتبار منتج الطائفة الثقافي جزءاً من منتج وطني عام وشامل، يتفاعل مع منتجات ثقافية للطوائف الأخرى المتحدة في دولة سياسية واحدة.

هذه الحالة المعرفية من جهة، والواقعية عبر تاريخ سورية من جهة أخرى، لم تضع الطوائف المذهبية ذات المرجعيات الدينية في حالة تناقض بنيوي، وإنما جعلت منها أجزاءً تتمّم بعضها لتمنح المكون الوطني العام هذا الغنى الفسيفسائي.

إن تشكّل الطائفة الدينية هو حدث تاريخي تمّ في مرحلة ما قبل الدولة الوطنية، وهذا التشكّل لا يمكن أن يحدث خارج حوامله، ونقصد حوامله ذات الطابع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وباعتبار أن مستوى الصراع في مراحل التاريخ زمن تشكّل الطوائف لم يتجلّ بصورة سياسية واضحة، أو اقتصادية بيّنة، ولا يمكن أن يأخذ صيغة سياسية على صورة تمثيلات سياسية (أحزاب) كما في مراحل الدولة الحديثة، ولهذا أخذ بالضرورة طبيعة أيديولوجية، هذه الأيديولوجيا، كانت ذات طبيعة دينية في تلك المراحل التاريخية، على اعتبار أن السياسة تعبير عن مصالح في جوهرها اقتصادي وسياسي، أي أن المجتمع يتوزع على فئات اجتماعية، لكل فئة مصالح سياسية واقتصادية يجري الصراع حولها بصورة فكرية أيديولوجية.

إن معاينة مفهوم الطائفية في سورية بعد تفكك الدولة العثمانية، يشي بأن الفئات الطائفية السورية المختلفة، كانت في حالة وئام اجتماعي، فلم تكن هناك صراعات دموية أو مذهبية بين هذه الطوائف، بل أنها بثقافاتها المختلفة أغنت المشهد الثقافي السوري، وحين حاول الفرنسيون تقسيم سورية على أساس مناطقي وطائفي، رفض السوريون هذا التقسيم وحاربوه بالسلاح، ويشهد على ذلك الثورة السورية الكبرى التي اندلعت عام 1925، حيث نصرتها الطوائف السورية باعتبارها ثورة وطنية جامعة.

إن سورية بعد الاستقلال بقيت رهينة للانقلابات العسكرية المختلفة، إذ لم يتشكل في تلك المرحلة الوعي السياسي المدني العميق، هذا الوعي، لا يمكنه أن يتشكل خارج مصالح قوى الدفع التاريخي ببناء دولة مؤسسات وطنية ديمقراطية، ونقصد بهذه القوى (الليبرالية)، التي لها مصالح اقتصادية وطنية، وبالتالي من الطبيعي أن يكون لها تمثيل سياسي، يعبّر عن برنامجها ببناء دولة مؤسسات، تتيح الحريات الاقتصادية وبالتوازي الحريات السياسية.

لقد كانت القوى الليبرالية ذات النزوع الوطني اقتصادياً وسياسياً حديثة التكوين وضعيفة في المجتمع، حيث لم يعبر المجتمع بعد إلى الانفكاك من العلاقات الاقتصادية ما قبل الرأسمالية (البرجوازية)، ولهذا يمكن اعتبار أن المجتمع السوري في فترة الخمسينات مجتمع ذو طبيعة زراعية، أي يعتمد في اقتصاده على الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وبمستوى انتاجي ضعيف، لم تدخله المكننة والعلاقات المتطورة.

في المقابل، كانت مؤسسة الجيش في سورية، هي المؤسسة القادرة على التحكّم بالبلاد سياسياً، وهذا جعل الانقلابات تعبيراً سياسياً عن مصالح لفئات داخلية ترتبط بمصالح خارجية، ولذلك تمّ ببساطة إجهاض التجربة الديمقراطية الوليدة، ويقوم الجيش بالاستيلاء على السلطة لفترة لا تزال مستمرة منذ انقلاب 8 آذار عام 1963.

وصول حزب البعث للسلطة عبر انقلاب عسكري، سيقطع بالضرورة صيرورة التطور الطبيعي للمجتمع والدولة السوريين، إذ لم يكن الانقلاب مجرد إدارة للسلطة فحسب، بل تحوّل إلى إدارة للدولة والسلطة والمجتمع، هذا النموذج أُطلق عليه تسمية (رأسمالية الدولة الشمولية الأمنية)، حيث تتحول الدولة من دور إدارة المصالح السياسية والاقتصادية المختلفة والمتناقضة للفئات الاجتماعية، إلى دور رب عمل وقائد للاقتصاد والسياسة والمجتمع، دون تفويض اجتماعي من مكونات الشعب السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية.

هذا ما فعله العسكر، الذين قفزوا إلى السلطة بانقلاب عسكري، حيث تابعوا الانقلاب على بعضهم، وصولاً إلى تسلّم حافظ الأسد حكم البلاد، مما ساعده على تغيير بنية نظام الحكم وعمل مؤسسات الدولة، وكي يستطيع الاستمرار في الحكم، بنى الأسد ما نطلق عليه نظاماً عسكرياً استبدادياً، يرتبط بشخصه أولاً، وبدائرة حكمه المحدودة ثانياً، وهو ما صار يعرف لاحقاً ب (الدولة الأمنية).

أدرك حافظ الأسد أنه حاكم وصل للسلطة بانقلاب، وكي يحافظ على هذا الحكم أوجد مؤسسات حكم على مقاسه، (حكومة ومجلس شعب وقضاء)، ودفع الأمر أكثر فأكثر بعد أحداث الثمانينات بين نظامه وحركة الاخوان المسلمين، إذ زاد من تسهيل سيطرة الطائفة التي ينحدر منها على مقدرات البلاد العلمية والاقتصادية وحتى الدينية.

هذا النموذج الذي انتهجه حافظ الأسد وضع البلاد في حالة تراجع لتطورها التاريخي، فبدلاً من انصهار المكونات الطائفية وغير الطائفية في بوتقة دولة المواطنة السورية، وضع طائفته بمواجهة المجتمع، إذ جعل أبناء هذه الطائفة أسرى لحكمه الديكتاتوري، وبذلك تحولت الطائفة من دورها كمكون وطني إلى جانب باقي المكونات، إلى مكون سلطة مستبدة، تلعب دور ذراعٍ أمني، فهي بحاجة للعمل، ولم يتح لها الأسد غير طريق الانخراط بجهازي الجيش والقوى الأمنية. وهذا جعلها في موقع المستأثرة بالاقتصاد والهيمنة على البلاد.

هذا التحول في بنية ووظيفة الطائفة، عمل على خلق استقطابات طائفية مقابلة لدى المكونات المذهبية الأخرى، هذه الاستقطابات أضعفت النسيج الوطني ومنعت من تطوره الإيجابي، واستبدلته بنسيج قابل للصراع الطائفي، وهو ما يعني، أن حافظ الأسد قام بإعادة انتاج للدولة بصورة ما قبل وطنية، وهذا يعني تفخيخ الدولة بالصراعات المذهبية، ومنع الصراعات السياسية السلمية بين الأحزاب، والتي تؤدي بالضرورة إلى تنافس بين برامج سياسية لقوى ذات بعد اجتماعي واقتصادي، يدفع باتجاه التطور الوطني العام.

إن انتقال الطائفة المذهبية من موقعها الطبيعي كهوية ثقافية نشأت في مرحلة تاريخية، إلى أن تكون ذراعاً سياسياً لنظام حكم استبدادي، يعني وضع هذه الطائفة على عتبة صراعات لا تخدم وجودها بالمعنى التاريخي، إضافة إلى تحميلها مسؤولية الصراعات الدامية في البلاد. ويعني أيضاً تغييراً في بنيتها ودورها كمكون اجتماعي طبيعي.

لذا، فإن نقد الطائفية ورفضها لا يكون باستخدام أدواتها التي استخدمتها، ونقصد بذلك التجييش الطائفي البغيض، بل ببيان خطر وظيفتها على المجتمع السوري ككل، وهذا يتطلب من النخب الثقافية والفكرية والاجتماعية اتخاذ موقف وطني صريح، يدين الطائفية كوظيفة سياسية معيقة لتطور المجتمع والدولة السوريين.

نقد الطائفية مطلوب كرؤية فكرية وممارسة من النخب الوطنية الثقافية السورية كلها، أي من النخب التي تنتمي مذهبياً إلى الطوائف السورية، دون اعتبار الطوائف ذات بعد سياسي.

فهل سنشهد حراكاً ثقافياً وطنياً بديلاً عما يجري من حراكات طائفية حالياً؟ إنها مهمة النخب الثقافية الوطنية السورية، وليس مهمة النخب ذات الوعي الطائفي، والتي وللأسف تزيد عبر نمط تفكيرها وممارستها الثقافية من تطييف سورية، بدلاً من جعلها وطناً متساوياً لكل مكوناتها.

المصدر السورية نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا