غزة والشمال السوري وحدة الدم وتخادم الطغاة

حين تصبح لغة التفجع ونبرة الألم وصراخ المظلوميات هو الصوت الأقوى في المشهد العام، فمن الطبيعي آنئذٍ أن يكون استنساخ العواطف ونبش ما تراكم في الذات الجمعية من قهر موروث وتبادل التهم والبحث عن مساحات جديدة لم تُجلد من الجسد هو الشغل الشاغل، وذلك في حالة غياب شبه تام لمنطق التبصّر وصوت العقل والتفكير الموضوعي بمنأى عن الضغوط الناتجة عن استمرار الخراب، مع التأكيد – بالطبع – على أن تلك الجائحة النفسية التي تجتاحنا كسوريين، لها ما يبررها ولا يمكن التنكر لها أو تحاشيها إذا بقيت ضمن حيّزها الطبيعي، أي في سياقها النفسي الإنساني الطارئ، ولم تتحوّل إلى حالة ثابتة ومنطلق لتحليل الوقائع وتفسيرها، وحينها لن يكون بمقدور التفكير المعطوب سوى إنتاج العطب ولا شيء سواه.

الخوف من الاستغراق في التفكير تحت وطأة المواجع له كل مقوّمات الحضور في المشهد السوري نتيجة لسياقات سياسية وميدانية شديدة التعقيد تزداد تحكّماً في سيرورة ثورة السوريين يوماً بعد يوم، ولعل ما أحدثه زلزال الحرب على غزّة جسّد ذروة لتلك السياقات المُركّبة، فبالتزامن مع العدوان الوحشي للكيان الصهيوني على سكان غزة، وكذلك بالتوازي مع العدوان الأسدي الروسي المستمر على إدلب وريف حلب الغربي، ينشغل الكثير من السوريين بمعترك ثالث فيما بينهم، ويكاد يودي هذا المعترك بما تبقى من أواصر فكرية أو نفسية أو اجتماعية، إذ ينزاح الاهتمام أو التفكير بالمصادر الحقيقية للمشكلة، ويتم التوجه نحو ما يمكن أن يؤسس لمزيد من الشروخات والفجوات لدى العاملين بالشأن السوري العام. ما نعنيه بالمعترك الثالث هو الانشغال الكلي حول مشروعية ما قامت به حركة حماس أو عدم مشروعيته، باعتبارها هي من بادر يوم السابع من شهر تشرين الأول الجاري بعملية نوعية أدت إلى اختراق غلاف غزة والتوغل إلى عمق مستوطنات الكيان الصهيوني، والحديث عن المشروعية يأتي على خلفية الموقف السلبي العام من حركة حماس نتيجة لتحالفها مع إيران التي تشارك نظام الأسد في قتل السوريين، إذ كيف يمكن للسوري الذي يُقتل أبناؤه برصاص ميليشيات إيران أن يناصر حركة حماس وهي أحد أذرع إيران؟ والحق أن كل رأي طرف من الأطراف المتناحرة يحمل في طياته جانباً من الصواب، فالقائلون إن حماس تتحالف مع رأس الشر إيران، وإيران هي الأكثر استثماراً بنشاط حماس كلامهم صحيح، وكذلك القائلون إن حركة حماس لا تجسّد حالة إجماع وطني على المستوى الفلسطيني بسبب مرجعيتها الإيديولوجية التي تجعلها أكثر ولاءً، بل تماهياً مع تيار الإسلام السياسي، فهذا أيضاً صحيح.

ولكن ثمة من يقول أيضاً: قبل السؤال عن مشروعية عملية حماس ألا ينبغي السؤال عن مشروعية الاحتلال الإسرائيلي، أليست مقاومة المحتل وبكافة السبل والوسائل أمراً مشروعاً تقره جميع شرائع الأرض والسماء؟ بل ربما كانت الحالة الطبيعية هي مقاومة المحتل وليست مهادنته أو الركون إلى ما يريد تأبيده، وما يمارسه الكيان الصهيوني بحق سكان غزة من حصار وإهانات واعتداءات مستمرة طيلة سبعة عشر عاماً ألا يجيز للفلسطينيين الدفاع عن أنفسهم ودفع الجور عن أبنائهم ونسائهم ومقدرات عيشهم؟ وهل كانت إسرائيل – طيلة خمس وسبعين سنة من احتلالها لفلسطين – تبحث عن مبرر أو ذريعة لعدوانها المتكرر على الحق الفلسطيني أم إن استمرار وجودها – ككيان أو دولة – مقرون باستمرار نهجها الاستئصالي الدموي بحق جميع سكان فلسطين؟

ليس مطلوبا من السوريين الثائرين على نظام الإجرام الأسدي أن يصفوا حماس بغير ما هي عليه، وليس مطلوباً منهم قلب الحقائق والتنكر لماهية تحالفاتها سواء مع إيران أو سواها من أعداء ثورة الشعب السوري، ولكن في الوقت ذاته ليس من حقهم تجريدها من خيار مقاومة المحتل الإسرائيلي، فتحالفات حماس مع العدو الإيراني لا تعفيها من مقاومة المحتل الصهيوني، وأيضاً مقاومتها للمحتل الصهيوني لا تعطيها صكوك البراءة من جرّاء تحالفاتها المشبوهة مع إيران، ولا يوجب هذا الموقف على أي مناهض لنظام الأسد أن يجري نوعاً من التماهي بين حركة حماس – كمشروع سياسي إيديولوجي – وقضية فلسطين باعتبارها قضية شعب له كل الحق في الدفاع عن أرضه وطرد المحتل.

كان من الممكن أن يتيح العدوان على غزة الوقوف على حقائق أكثر نصاعة وجدوى من إشكالية حماس وارتباطاتها الإقليمية، باعتبار هذه الارتباطات قائمة ولا تحتاج إلى مزيد من التنقيب والإثبات، فتزامن العدوان الإسرائيل على شعب فلسطين مع شراسة العدوان الأسدي على الشمال السوري تؤكد تأكيداً قاطعاً بأن قضية السوريين من أجل تحررهم من طغيان النظام الأسدي لا تختلف في جوهرها عن نضال شعب فلسطين لطرد الكيان الغاصب لبلادهم، وأن الدم السوري المراق من جراء استهداف الطيران الأسدي والروسي للأسواق الشعبية والمستشفيات في الشمال السوري لا يختلف عن الدم المراق في مشفى المعمداني في غزة، وأن الحق الإنساني في الحياة والدفاع عن الحريات والحقوق هو مبدأ متكامل لا يمكن أن يتجزأ، وانطلاقاً من تلك الحقائق يمكن الوقوف أيضاً على قذارة بلا حدود للعديد من المواقف الدولية المتخادمة في قتل الشعبين السوري والفلسطيني، فما معنى أن تطالب روسيا مجلس الأمن باتخاذ قرار بوقف إطلاق نار شامل في غزة، بينما ترفض وقف القتل والدمار بحق السوريين، ويتكامل هذا الدور بالموقف الأميركي الداعم بلا حدود للعدوان الإسرائيلي على أطفال غزة، والمدّعي – في الوقت ذاته – مناهضته للإرهاب؟ بل ربما تبلغ المهزلة ذروتها حين نجد أن نظام الإبادة الأسدي يرفع عقيرته مطالباً بوقف الحرب على غزة، فيما تستمر أدوات إجرامه بحصد أرواح السوريين. ربما كان التفكير في صلب تلك المفارقات الموجعة يتيح لنا تعزيز القناعة بأن قضية فلسطين كانت جامعة للعرب والمسلمين، ويجب أن تبقى كذلك.

المصدر تلفزيون.سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا