الجيش السوري.. في اللا دولة

لقد آذن انقلاب حافظ الأسد العام 1970، ليس فقط بانفراد العلويين بالسلطة وتنحية الطوائف الأخرى، بل بتغليب فئات معينة من العلويين وتسلطهم على أجهزة الحكم الرئيسية، وهو نهج تصاعد بالتدريج حتى تركزت السلطة بشكل مطلق في عائلة الأسد.

فعقب محاولة سليم حاطوم الانقلابية الفاشلة، تجمع الضباط العلويون في تكتلين، الأول بقيادة صلاح جديد، ومعقله القيادة القُطرية السورية لحزب البعث، فيما الآخر بقيادة حافظ الأسد ومعقله الجيش، والذي فصله عن الحزب اعتباراً من تشرين الأول 1968، ومنع أي اتصال له بالقيادة الحزبية المدنية.

وفي الخلاف المعلن بين جديد والأسد، نلمح أيضاً جانباً من الصراع الطائفي، لكن بصيغة أخرى. فبينما كان جديد يتجه إلى فرض سياسات متشددة على تجار المدن، تدعمه في ذلك كتلة سنيّة ريفية غالبيتها من محافظة دير الزور، مثّل يوسف زعين ومحمد عيد عشاوي ومصلح سالم، توجه حافظ الأسد إلى قمع هذه الفئة الريفية السنيّة بالذات، بسبب ميلها إلى المغامرة وتعطشها للسلطة، وهو فضّل اتخاذ خطوة تصالحية مع الطبقة التجارية السنيّة المنهكة، خصوصاً الدمشقية، وتأسيس تحالف غير متوازن معها، استمر عملياً إلى ما بعد وفاته.

وفي 13 نوفمبر/تشرين الثاني، اقتحم العسكريون الموالون له، مكاتب حزب “البعث”، واعتقلوا قيادتيه القومية والقُطرية، وزج معظمهم في السجن حيث توفي بعضهم، وخرج البعض الآخر بعد أكثر من عشرين عاماً وقد فتكت به الأمراض.

استند الأسد في سلطته إلى مجموعة من الضباط المخلصين، ووجد الباحث، حنا بطاطو، أنه كان “من العلويين ما لا يقل عن 61.3 في المئة من الضباط الـ31 الذين انتقتهم يد الأسد بين عامي 1970 و1997، ليحتلوا المواقع الرئيسية في القوات المسلحة والتشكيلات العسكرية النخبوية وأجهزة الأمن والاستخبارات، وكان ثمانية من هؤلاء من عشيرته الكلبية، وأربعة من عشيرة زوجته، الحدادين”[1]. لكنه لم يغفل عن انتقاء بعض الشخصيات السنية لترافقه في رحلة الحكم، ومنحهم “مناصب عسكرية عليا من حيث الشكل، إلا أنهم لم يكونوا في وضع يشكل أي تهديد للرئيس العلوي الذي كان أتباعه الشخصيون قادرين على قمع أية بادرة عصيان”[2]. وعمّر كل من مصطفى طلاس في منصب وزير الدفاع، وحكمت الشهابي في منصب رئيس الأركان، بعدما تفهما دورهما الوظيفي في النظام، ونفذاه بحذافيره، فيما أُزيح ناجي جميل (سنّي، دير الزور)، الذي تخلى له الأسد عن منصب قيادة القوى الجوية، وسلّمه أيضاً قيادة مكتب الأمن الوطني “المخابرات العامة”، حين لمس لديه بعض التطلعات السلطوية، ولفّق له تهمة “العلم” بمحاولة انقلابية يقودها عدد من ضباط القوى الجوية، ووضع رهن الإقامة الاجبارية ابتداء من العام 1978.

(الدورة التاسعة من الطلاب الضباط الطيارين في سوريا، وأحد أفرادها حافظ الأسد، العام 1952)
(الدورة التاسعة من الطلاب الضباط الطيارين في سوريا، وأحد أفرادها حافظ الأسد، العام 1952)

وكان العمل على توطيد سلطة العائلة قد بدأ قبل وصول حافظ الأسد إلى سدة الرئاسة. يقول مصطفى طلاس في مذكراته، إن قيادة الكلية الحربية ومديرها المقدم عزت جديد، قررت في نيسان/ابريل 1965 منح رفعت الأسد الذي كان طالباً ضابطاً حينها، مرتبة الأول على دورته. لكن طلاس، الذي كان رئيس اللجنة الفاحصة، دقق في النتائج ووجد أن “رفعت حاز المرتبة 31، من أصل تعداد دورة المدرعات البالغة 37″طالباً[3]. ويضيف إنه تواصل مع حافظ، الذي كان حينها قائداً للقوى الجوية، فطلب منه تثبيت النتائج التي توصل إليها. سيبدو ذلك ترفعاً من حافظ الأسد عن الخوض في المحسوبيات لصالح العائلة، لكن الوقائع ستكشف خلاف ذلك تماماً عندما سيستدعي شقيقه فور تخرجه، ويوكل إليه مهمة تأليف قوة جديدة اسمها “سرايا الدفاع عن المطارات”. فمعقله في القوى الجوية ومطاراتها، كان سهل الاختراق فيما لو حصل انقلاب مفاجئ، لصعوبة الدفاع عنها بالطائرات، ولا بد من تدعيمها بالمصفحات والمدرعات.

وصارت هذه القوة محور صراع رئيسي في الجيش، لم تسلط عليه الأضواء بشكل كاف. فعقب وصول حافظ إلى وزارة الدفاع، رفض التخلي عن قيادة القوى الجوية، وهي في ما نعرف أعجوبة لم يُسمع بها في جيش من جيوش العالم، وكانت موضوع صِدام بينه وبين ورئيس الأركان، أحمد سويداني، الذي، وفق كل الأنظمة العسكرية، يفترض أن يتبع سلاح الجو له. لكن حافظ أصرّ على أن تتلقى القوى الجوية، بما فيها شقيقه رفعت، الأوامر منه حصراً، وأدى إصرار سويداني على حقه القانوني إلى إطاحته ليقضي 25 عاماً في سجون الأسد عقاباً له.

هكذا غدت القوة، التي سيصبح اسمها “سرايا الدفاع” فقط، بعد أقل من عامين على إنشائها، أقوى وحدة دبابات في الجيش السوري، بلغ عديدها لاحقاً 50 ألف مقاتل نخبوي، وأثبتت أهميتها القصوى في استمرار سلطة الطائفة والعشيرة والعائلة، عندما لعبت دور رأس الحربة في إخماد انتفاضة “الإخوان المسلمين”، خصوصاً في مدينة حماة، التي كانت في الواقع أول وآخر انتفاضة مسلحة للسنّة المدينيين. لكن رفعت ما لبث أن تصادم مع شقيقه الأكبر، وانتهى الخلاف العام 1984 بمغادرته سوريا.

(بشار الأسد في قوات عمّه رفعت "سرايا الدفاع" العام 1981)
(بشار الأسد في قوات عمّه رفعت “سرايا الدفاع” العام 1981)

شهدت الفترة، ابتداء من العام 1985 وحتى 2000، مرحلة استقرار لسلطة حافظ الأسد المطلقة، عكف خلالها على ترسيخ قوة الجيش من ناحية، وزاد عديده ليبلغ العام 1985 نحو “396000، إضافة إلى 300 ألف في الاحتياط”[4]،  ومن ناحية أخرى، زاد عدد منتسبيه العلويين زيادة هائلة، واحتكروا المناصب العليا والمتوسطة، ففي العام 1992 كان ضباط علويون يقودون “سبع فرق من بين الفرق التسع التي شكلت في حينه الجيش السوري النظامي”[5]، بينما “لم يكونوا يقودون في العام 1973 سوى فرقتين من فرق الجيش النظامي الخمس”[6].

بفضل هذه الترتيبات التي عمل عليها حافظ الأسد، بصبر، انتقلت السلطة بصورة آلية إلى ابنه بشار، الذي واصل السير في النفق المتضايق والمظلم للسلطة الفردية والعائلية حتى نهايته المحتومة. فالنظام الراسخ الذي ورثه بشار عن أبيه، وورثه أبيه جزئياً عن أسلافه، ليس من صناعتهم وحدهم، انه الناتج المنطقي لمسار نشأ في مطلع القرن العشرين، وتعمق يوماً بعد آخر، حتى صار أخدوداً يصعب تغيير وجهته أو مآلات السائرين فيه، ما لم تتغير المعطيات الجوهرية التي أنشأته. وللدلالة على ذلك، سأسوق المثال التالي، الذي كنت أحد الشهود عليه:

في العام 2003، وكنت حينها ضابطاً برتبة ملازم أول في سلاح الجو السوري، أصدر بشار الأسد أمراً داخلياً بجعل القبول في الكليات العسكرية على أساس جغرافي، أي تخصيص مقاعد لكل محافظة تتناسب وعدد السكان فيها، مع الإبقاء على تفضيل لأبناء العسكريين بواقع 12.5%. وبالطبع كان مفهوماً أن هذه النسبة ستكون من حصة طلاب علويين، لكن التجربة لم تعمّر سوى سنة واحدة، وطُبّقت في الكلية الحربية لدورة واحدة، بدت خلالها تلك الدورة اشبه بالبطة السوداء، لتناقضها الصارخ مع بنية الجيش السوري وتاريخانيته. فالدورة 59 مشاة، ضمت ما مجموعه 256 طالباً، بينهم 128 سنياً، و81 علوياً، و47 من باقي الطوائف والأديان، وبلغ الاحتجاج مستوى أن تلك الدورة كانت توسم على نحو علني في صفوف العسكريين العلويين ذاتهم باسم دورة السنّة. وضغطت كافة المستويات العسكرية والشعبية القاعدية لإلغاء هذا القرار، واضطر بشار الأسد للرضوخ لهذا المطلب، بل ولإقالة العماد هايل حورية، الذي قيل أنه مَن أقنعه بهذه الفكرة وأشرف على تنفيذها.

لقد قلنا في مطلع هذه السلسلة، بأن سيرورة الأحداث في سوريا منطقية من وجهة نظر علم الاجتماع السياسي، وتخضع لقوانينه. وما يهم السوريون الآن، بعد كل تلك المآسي التي لا تمحى آثارها، هو معرفة مكمن الخلل، وطريقة معالجته إن كان ذلك ممكناً. وهو ما سنحاول الإجابة عنه في الجزء الخامس والأخير من هذه السلسلة، في ضوء التحليل العميق لعالِم الاجتماع السوري برهان غليون.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا