القمح في سوريا: أسرار وأسعار

لا ندّعي في هذا المقال، القدرة على كشف الأسرار التي تحيط بملف القمح في مناطق سيطرة النظام السوري، بقدر ما نستهدف الإضاءة عليها، بوصفها حصيلة مزيجٍ من الفوضى الحكومية، وعدم التخطيط، وانعدام الرؤية المستقبلية، والأهم، تغليب مصالح أقلية مستفيدة على مصالح الأغلبية.

أول تلك الأسرار، تتعلّق بسعر شراء كيلو القمح الروسي. فقبل نحو عشرة أيام، مرّر وزير الزراعة بحكومة النظام، خبراً عبر وكالة “نوفوستي” الروسية، عن استيراد 1.4 مليون طن من القمح الروسي لصالح مؤسسة الحبوب السورية. لكنه لم يكشف عن قيمة العقد. وهو أمر معتاد لدى حكومة النظام، مما يخلق بيئة ملائمة للجدل حول مدى عدالة تسعيرة شراء القمح المحلي، التي تعلن عنها الحكومة في مطلع كل موسم.

وكما حدث في الموسمين السابقين، انفجرت الانتقادات بعيد إعلان الحكومة عن سعر تأشيري بقيمة 4200 ليرة سورية لكيلو غرام القمح، للموسم الحالي. واعتبر ممثلون نقابيون عن الفلاحين، مجدداً، أن التسعيرة لا تتناسب مع التكاليف. وتكررت تحذيرات خبراء محليين من أن التسعيرة التي تحددها الحكومة كل موسم، تدفع الفلاحين للإدبار عن زراعة القمح، والبحث عن محاصيل أخرى، أجدى اقتصادياً. وهو ما يمثّل خسارة استراتيجية للاقتصاد السوري، ويجعل “القرار السياسي” رهناً للبلدان المصدِّرة. وفي الحالة هنا، البلد المصدِّر الوحيد لسوريا، هو روسيا.

وهو ما يقودنا للسرّ الثاني: لماذا تصرّ حكومة النظام، في كل مرة، على فرض تسعيرة لشراء القمح المحلي، غير مرضية لجمهور الفلاحين؟ وحتى بعد حديث وزير الزراعة عن أن التسعيرة المحددة للموسم الحالي، قيد الدراسة، فإن التجارب السابقة تدفع للاعتقاد أن الزيادة المرتقبة على التسعيرة لن تكون على قدر رهانات الفلاحين. وهو ما حدث في الموسم الماضي، حينما رفعت الحكومة سعر شراء الكيلو من 2300 إلى 2800 ليرة، تحت وقع الانتقادات. ويومها تحدث الفلاحون عن تكلفة لا تقل عن 2860 ليرة لزراعة الكيلو الواحد. وتحقق ما بشّر به خبراء عبر وسائل إعلام موالية يومها، بأن يتم تسريب الجزء الأكبر من القمح المحلي إلى خارج قبضة مؤسسة الحبوب السورية، نتيجة التسعيرة غير العادلة. وعَجِزَ النظام عن الوصول إلى رقم المليون طن قمح، الذي راهن على شرائه من السوق المحلية، وحصل فقط على 725 ألف طن، من أصل إنتاج يصل إلى نحو مليون ونصف المليون طن، في عموم سوريا. فيما احتياج مناطق سيطرة النظام، سنوياً، يصل إلى 2.4 مليون طن. وهذه الفجوة يتم سدّها عبر الاستيراد من روسيا. وهو ما يشكّل عبئاً على خزينة الدولة، واستنزافاً للقطع الأجنبي الشحيح. مما يعيدنا إلى اللغز ذاته: لماذا يعتمدون في كل مرة أسعاراً لشراء القمح المحلي غير مُرضية للفلاح السوري؟

الجواب التقليدي من جانب مسؤولي النظام، أن التسعيرة تُوضع بناء على دراسة لتكاليف الإنتاج. وهو ما يردُّ عليه اتحاد الفلاحين ذاته، بأن التسعيرة تجعل الفلاح خاسراً. وهو ما يتفق معه خبراء محليون في مناطق سيطرة النظام، يتحدثون عن أن التسعيرة الرسمية تقل عن نصف السعر العالمي. لكن، بالتدقيق، نجد أن هؤلاء الخبراء يستندون إلى أسعار العقود الآجلة، (تسليم نهاية آذار/مارس القادم)، بينما إذا راجعنا الأسعار الراهنة للقمح الروسي خلال الأسبوع الفائت، فهي قرب 250 دولاراً للطن (تشمل أجور الشحن بوسطي 15 دولاراً للطن الواحد)، أي ما يعادل 3500 ليرة سورية لكيلو القمح الواحد. وهو ما يجعل التسعيرة الرسمية، عادلة، مقارنة بالسعر العالمي. وهو ما ينفيه ممثلو الفلاحين، مشيرين إلى تكاليف إنتاج محلية أعلى من التكاليف العالمية. فمع تراجع الدعم الحكومي للقطاع الزراعي، يضطر الفلاحون لشراء الوقود والمبيدات والأسمدة، بضعف السعر العالمي، على الأقل، من السوق السوداء السورية.

وهو ما يحيلنا إلى السرّ الثالث، حول هوية المستفيدين من هذا الواقع. وهم تلك الأقلية المحظوظة من التجار، الذين يحوزون على عقود استيراد القمح الروسي، وكذلك الوقود والمبيدات والأسمدة. والذين يُعتقد أنهم محسوبون على متنفذين داخل أجهزة النظام. وكمثال، وبالعودة إلى خبر استيراد 1.4 مليون طن قمح روسي، وإن اعتمدنا سعر الطن –وسطياً- بـ 250 دولاراً، فهذا يعني 350 مليون دولار أمريكي، قيمة العقد. وهو رقم ضخم مقارنة بميزانية سوريا المبدئية لعام 2024، والتي تعادل نحو 2.5 مليار دولار (وفق سعر الصرف في السوق السوداء). الأمر الذي يعزّز الرأي القائل بأن أصحاب القرار الفعلي داخل حكومة النظام يستهدفون لجم زراعة القمح المحلي، دعماً لمصالح تلك الأقلية المحظوظة من التجار. ناهيك عن المكاسب التي يحصدها الحليف الروسي، بما يخدم تحالف النظام، معه.

والآن نصل إلى السرّ الرابع: منْ يتخذ القرار في ملف القمح بسوريا؟ فوزير الزراعة، ذاته، الذي أعلن خبر استيراد 1.4 مليون طن روسي، قبل عشرة أيام، كان قد أعلن في حزيران/يونيو الفائت، أن سوريا ستستورد نصف كمية القمح المستوردة العام الماضي، بفضل الزيادة المتوقعة في المحصول المحلي. وكانت سوريا استوردت في الموسم السابق 1.5 مليون طن. وما حدث، أن سوريا، استوردت مجدداً، الكمية نفسها تقريباً. مما يعني أن وزير الزراعة لا يعرف الأرقام الدقيقة لإنتاج واستيراد واستهلاك القمح. أو أنه يعرفها، لكن القرار في ملف القمح، ليس بيده.

والحصيلة، أن ذهب سوريا الأصفر، يذبل وتتقلّص مساحته، عاماً تلو الآخر.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا