انتفاضة دير الزور: أين أخطأت العشائر؟

ربما كان صحيحاً أن السبب المباشر للقتال الذي دار في محافظة دير الزور يعود الى خلاف شخصي بين المدعو أحمد الخبيل (أبو خولة) قائد المجلس العسكري في دير الزور، وبين قيادة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذي يعتبر الخبيل جزءاً منه وإحدى أهم أدواته في تطويع أهالي المنطقة.

ولكن من جهة أخرى، تدلّ ضراوة تلك المعارك واتساعها بسرعة وشموليتها على أن الأسباب البعيدة لهذه الانتفاضة تعود الى تراكمات عميقة لدى المكون العربي نتيجة ممارسات قسد واستئثارها بصناعة القرار وتحكمها في إدارة المنطقة، فضلاً عن حالة البؤس المعيشي التي يعاني منها جميع سكان المنطقة،  بينما المفارقة أمامهم أن منطقتهم الغنية بالثروات، والتي تُعتبر من أغنى مناطق سوريا وسلتها الغذائية، يُحرمون من خيراتها وكأن قسد لا تنظر الى تلك المناطق إلا على أنها بقرة حلوب.

ولاندلاع المعارك واتساعها بهذه الشمولية سبب آخر، فالجميع يتفهم مجمل القيم التي تشكل الحمية العشائرية والأعراف القبلية وتكون مبادئ الفزعة والتضامن الاجتماعي بين القبائل والعشائر العربية. هذه كان لها دور في اتساع رقعة القتال، وبالتالي صنع هدفاً مشتركاً. فمجمل القبائل والعشائر الموجودة في المنطقة الشرقية تشترك في الظلم والإقصاء والتهميش الذي لاقته من قبل سلطات الأمر الواقع المتمثلة بقادة قسد القنديلية، لهذا رأينا نوعاً من التضامن بينها، بالإضافة الى السبب المباشر الذي يعود الى أعراف القبيلة الرافضة لحكم الأجنبي.

ربما بهذا تكون القبائل حققت حداً أدنى من المنجز العسكري تمثل بكسر هيبة قسد، واستطاعت أن تثبت لهذه القوة وللتحالف الدولي، أن قسد مهما تعاظمت قوتها ومهما كانت تحالفاتها، لا تستطيع أن تحكم بالقوة المكون العربي الذي هو صاحب الأرض، ولكن بنفس الوقت لا أحد يستطيع أن يتكهن بمآلات هذه الحرب، التي يبدو أنها خمدت لكن لم تنتهِ، وإلى أين ستفضي.

من هنا ليس أمامنا إلا أن نتخيل أكثر من سيناريو لتجدد المواجهات، أو أكثر من مخرج للأزمة، ربما أولها يتمثل بأن هذه المعارك لا بد أن تنتهي الى التفاوض من جديد، وربما تحسن الانتفاضة العشائرية شروط الحوار مع قسد لتجبرها واشنطن على منح المكون العربي دوراً حقيقياً في صناعة القرار. أي يكون المكون العربي شريكاً ندياً في السلطة وفي الإدارة داخل قسد.

أما بخصوص الموقف الأميركي، فالجميع يعلم أنه ظهر في البداية ظهوراً خجولاً، وأشار في بيان بسيط إلى ضرورة وقف المعارك وحل الخلافات بالحوار، ولكن هذا الخجل الأميركي المتعمد مردّه إلى أن واشنطن ربما كان لها رضىً ضمني على ايقاع هزيمة جزئية بقسد، لإجبارها على قبول المكون العربي كشريك أساسي في السلطة، وهي المتعنتة التي ترفض حتى قبول شركاء أكراد يقاسمون حزب الاتحاد الديمقراطي، ذراع حزب العمال الكردستاني، السلطة في شمال سرق سوريا.

هناك سبب أخر محتمل وراء الرضى الأميركي المتوقع بإلحاق هزيمة جزئية بقسد، يكمن في رفض قيادة قوات سوريا الديمقراطية التحالف معها في قتال الميليشيات الإيرانية في المنطقة، وواشنطن ترى أن الأولوية في المستقبل لمحاربة إيران وأذرعها هناك، وبالتالي لا بد من التحالف مع المكون العربي من أجل ذلك.

لأكثر من سبب تبرز هذه الحاجة الأميركية إذا ما صحت الأحاديث عن نوايا المواجهة قبل أو بعد الانتخابات القادمة في بلاد العام سام نهاية 2024، ويأتي بالدرجة الأولى أن العرب السُنة هم أصحاب المنطقة وتمتد جذورهم فيها الى مئات السنين، والسبب الأخر هو السبب الأيديولوجي والسياسي والقومي، فلدى العرب السنة إرث تاريخي من العداء مع سياسات إيران وأطماعها التوسعية، وعدم القبول بوجودها.

الموقف التركي

على الرغم من أن هناك من كان يعتقد أن لتركيا يداً بتحريك هذه الأحداث، من أجل إضعاف عدوها اللدود قسد، إلا أن الموقف التركي مما يحصل في شمال شرق سوريا حتى الأن هو الحذر والتحفظ الشديد، على الرغم أن ما يحصل يشكل فرصة كبيرة لهم من أجل التحرك والقضاء على هذا العدو. واللافت في موقف أنقرة هو التحفظ المبالغ به، وهذا واضح من خلال عدم تحرك الجيش الوطني التابع لها، والاكتفاء بالسماح لأبناء العشائر المتحمسين ممن يريد الذهاب لقتال قسد، بالعبور عبر المنافذ والمعابر بسلاحهم الخفيف، وسط صمت مريب لكيانات المعارضة السياسية والعسكرية.

تركيا اكتفت ببيان لخارجيتها كان مقتضباً جداً ولا يعبر عن موقف واضح، قالت فيه إنهم يراقبون الموقف عن كثب، بالإضافة طبعاً لتصريح الرئيس التركي في ختام لقاءه مع الرئيس الروسي بمدينة سوتشي عن أحقية العشائر بحكم مناطقهم، وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن الموضوع ليس بهذه البساطة والعفوية التي يتعامل بها الكثيرون، أو أنه موضوع تحركه بالنسبة لصانع القرار التركي، العاطفة التي يتحرك على أساسها أغلب السوريين المعارضين، وهذا مؤشر على أنه إما لدى تركيا من المعلومات والمعطيات ما يجعلها متحفظة، أو ربما نقص في المعلومات يجعلها أكثر حذراً.

الموقف العشائري

بالمجمل، وبالعودة لطبيعة ودوافع موقف العشائر، فقد بدا الحراك غير واضح لكثيرين من السوريين الذين كان لديهم تساؤلات كثيرة محقة عن هوية هذا الحراك ودوافعه وأهدافه ومن يقف وراءه، وعن سبب عدم انخراط أغلب قبائل وعشائر المنطقة مع قبيلة العكيدات في المعارك الدائرة، بما فيهم جزء من أبناء القبيلة نفسها.

الإجابة على هذه التساؤلات يحتاج إلى معرفة عميقة بالتركيبة السكانية والعشائرية وطبيعة علاقاتها الاجتماعية وارتباطاتها مع سلطات الأمر الواقع التي تعاقبت على حكمهم والتسلط عليهم.

فقد حاول النظام والإيرانيون عبر أدواتهم في المنطقة تبني هذا الحراك بقصد الإساءة للعشائر العربية، وزرع الشكوك بهذا الحراك لدى السوريين، وتأكيد سردية قسد على أن الحراك هو تمرد تقوده جماعات مدعومة من النظام والميليشيات الإيرانية، وهذا ما إلتبس على بعض أبناء الثورة، الذين اختلطت عليهم الأمور وغابت عنهم حقيقة الأمر، مع أن الجميع يعلم بأن أبناء محافظة دير الزور مدينةً وريفاً، قد حرروا أكثر من تسعين في المئة من أرضهم من قوات النظام بداية عام 2013، وهم من أوائل الثوار الذين انتفضوا في وجهه، وأغلب المنتفضين حالياً ضد قسد هم مطلوبون لأجهزة النظام الأمنية، وبالتالي لا يمكن لهؤلاء أن يستبدلوا قسد بالنظام الذي قتل أولادهم ودمّر مدنهم وهجرهم.

وما جعل البعض يميل الى تصديق رواية قسد، وجعل الكثير من عشائر المنطقة يحجمون عن المشارك في هذه الانتفاضة والانخراط في القتال الدائر، رغم كرههم لقسد ورغبتهم الشديدة بالتخلص من القيادات الكردية القنديلية التي تتعامل معهم بفوقية واستعلاء، هو تصدر الشيخ إبراهيم الهفل قيادة هذا الحراك. وعلى الرغم أنه من بيت مشيخة قبيلة العكيدات، إلا أن عدم وضوح موقفه من الثورة السورية وارتباطاته السابقة مع النظام والإيرانيين، جعل قيادته لهذا الحراك موضع شك وريبة، وما زاد من هواجسهم أكثر رفضه رفع علم الثورة السورية وعدم تبني خطاب وطني جامع وواضح.

الأمر الثاني أكتبه وأنا ابن هذه القبيلة، هو تركيز إبراهيم الهفل والآلة الإعلامية المحيطة به، على حصر هذا الحراك بقبيلة العكيدات ونسب البطولات والانتصارات لها دون غيرها، وإحاطته بهالة وقدسية كبيرة، ما أثار حفيظة وانزعاج أبناء القبيلة نفسها، وباقي العشائر التي أصلاً ينتابهم الشك بأهليته وقدرته على قيادة هذا الحراك.

على أي حال، لم ينتهِ الحراك بعد وجذوة الثورة التي اشتعلت ضد قسد لن تنطفئ دون تحقيق مطالب المكون العربي أو بعضاً منها على الأقل، ودون ذلك ستبقى المنطقة غير مستقرة وستبقى النار تحت الرماد قابلة للاشتعال في أي لحظة، وقسد التي أصرت على الحسم العسكري لإخماد الانتفاضة أو كما سمتها التمرد، أثبتت أنها قوة  احتلال غريبة عن هذا المجتمع، ولا تختلف في أسلوب معالجتها للمطالب المحقة للسكان عن نهج نظام الأسد في قمع مخالفيها، وارتكاب كافة الجرائم والانتهاكات بحق المدنيين لتثبت حكمها، فيما أثبتت ثورة العشائر أن أي حراك غير منظم وليس له قيادة سياسية وعسكرية ومدنية من أصحاب الكفاءة والاختصاص من أبناء الثورة الحقيقيين وضمن الاطار والمنظور الوطني، سيكون فاشلاً ولن يجني الثمار المرجوة منه.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا