فلسطين المتجذّرة في الوجدان السوري

حفلت بعض وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي في الأيام الأولى من الانتفاضة بنقل صور وفيديوهات تُظهر “حسن تعامل” جيش الاحتلال الإسرائيلي مع المنتفضين من أهالي القدس ومناطق 48 المحتلة وإظهارها على أنها معاملة أخلاقية جيدة، خاصة عند مقارنتها بوحشية النظام السوري في تعامله مع الثورة الشعبية.

إسرائيل استفادت من تجارب الانتفاضات الفلسطينية السابقة وأصبحت حريصة على إعطاء صورة جيدة عن نفسها بعد أن خسرت إعلامياً بشكل كبير من خلال تعاطف الراي العام العالمي مع انتفاضات الشعب الفلسطيني السلمية السابقة، إلا أن هذه المقارنة غير صحيحة، وسرعان ما انكشف زيف إنسانيتهم. لم يستطِع جيش الاحتلال إخفاء حقيقة منشئه القائم على الإرهاب والإجرام، فبدأ باستخدام طيرانه الحربي ومدفعيته بقصف المناطق السكنية، ولم تسلم منه حتى المباني التي توجد فيها مقرات وسائل الاعلام، حتى لا يرى العالم بشاعة جرائمه.

الأسد لم يعبأ بالرأي العام أصلاً لأنه يعلم أن استمرار وجوده حاجة إسرائيلية، وأنه محمي بهذه الحاجة مهما فعل، وبالتالي يتوجب عدم التفريق بينهما. إسرائيل لعبت دوراً حاسماً في استمرار النظام والحفاظ عليه، وهذا ما كشف عنه وزير إسرائيلي كبير من ذوي الخلفية الأمنية في آذار/مارس، حين قال إن :مؤيدي رأس السلطة الحاكمة في سوريا بشار الأسد في القيادة الإسرائيلية تغلبوا على معارضيه”.

ظنّ البعض أنه بسبب المأسي التي يتعرض لها عدد من شعوب المنطقة العربية وخاصة سوريا، والعراق واليمن وليبيا وغيرهم من الشعوب التي تحكمها أنظمة مستبدة تتاجر بالقضية الفلسطينية، أن هذه الشعوب أصبحت تعتبر ألمها ومأساتها أكبر من الألم الفلسطيني، وأنه أصبح لكل شعب قضيته المركزية التي يعاني منها ويدفع ثمنها ولم تعد القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، ولكن في الحقيقة إن هذا التفكير الخاطئ الذي حاولت إيران وهذه الأنظمة ترسيخه في فكر تلك الشعوب، تحطم على صخرة الهبّة المقدسية.

لقد أثبتت الأحداث والوقائع أن المأساة الفلسطينية هي أساس مآسي شعوب المنطقة التي تدفع ثمن متاجرة الأنظمة العسكرية الديكتاتورية بالقضية الفلسطينية، والتي جوّعت الشعوب وسرقت ونهبت ثروات بلادها بحجة تجهيز الجيوش لتحرير فلسطين.

هبّة الشعب الفلسطيني في وجه المحتل الإسرائيلي أعادت القضية الفلسطينية إلى صدارة اهتمام شعوب المنطقة وتعاطفها ومساندتها، متناسية ألامها ومأسيها، وخاصة الشعب السوري المنكوب الذي يعاني القتل والاعتقال والتهجير على يد عصابات الأسد المدعومة إيرانياً وإسرائيلياً، فقد كان الشعب السوري دائماً في مقدمة المساندين والداعمين للشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، وقدّم تضحيات كبيرة في مختلف مراحل النضال الفلسطيني، وامتزجت الدماء السورية والفلسطينية على أرض لبنان والأردن و فلسطين، ولا ننسَ أن قائد الثورة الفلسطينية الكبرى كان الشيخ عز الدين القسام ابن مدينة جبلة الأدهمية.

ثمة إدراك كبير بأن تحرير أوطاننا من المستبدين والطغاة هو الطريق الفعلي لتحرير فلسطين، هذه القناعة راسخة لدى ثوار سوريا وثوار فلسطين ممن اختبروا ظلم الاحتلال وظلم أنظمة الاستبداد والطغيان، لذلك ومنذ انطلاقة الثورة السورية كان واضحاً مشاركة الكثير من الفلسطينيين السوريين بهذه الثورة، ولم يكن بوسع أحد أن يفرق بين هذا وذاك فكلاهما يواجه الاستبداد، ولكن بكل أسف قابل هذا الموقف المشرف مواقف أخرى من جماعات فلسطينية ساندت النظام ولعبت دوراً في تشويش وتشويه هذه الصورة المشرقة.

بعض الفصائل والميليشيات الفلسطينية التي صنعها نظام الأسد والتي كانن مدعومة منه ومن ايران، تراوحت مواقفها ما بين الصمت بداية الثورة ثم الانتقال إلى مربع دعم النظام، بالإضافة الى المواقف المشينة التي اتخذتها السلطة الفلسطينية التي كان آخرها موقف التصويت لصالح النظام في منظمة حظر الأسلحة الكيماوية.

وحدها حركة حماس سجلت موقفاً واضحاً برفض دعم النظام، لكن ذلك لم يمنع بعض قادة الحركة من تسجيل مواقف مخزية في صالح قتلة الشعب السوري، واعتبار قتلاهم من قادة الحرس الثوري الإيراني وفيلق القدس، وحزب الله، شهداء القدس. هذه المواقف كانت أكثر إيلاماً للشعب السوري من براميل النظام وصواريخه. مع ذلك عندما اندلعت هبّة الأقصى وانتفض أهالي القدس دفاعاً عن مقدساتهم وأرضهم ووجودهم وحقوقهم بوجه المحتل الإسرائيلي، شهدنا تعاطفاً كبيراً من السوريين الأحرار مع رباط المقدسيين، وكان هذا دليلاً ساطعاً وواضحاً عل مدى التلاحم والشراكة في المصير، وإدراك أن الاحتلال الإسرائيلي هو الوجه الاخر للعملة الأسدية.

يبقى موقف جزء من السوريين المتحفظ على علاقة حماس بإيران وهو موقف نابع من خشية الكثير منهم من استثمار ايران لهذه الانتفاضة، وتوجيهها، واستغلال الفرصة لتصفية حسابات القصف الإسرائيلي المتكرر على مواقعها في سوريا، والاختراق الإسرائيلي لموقع “نطنز” النووي، من خلال حلفائها في المقاومة الفلسطينية، وهي مخاوف محقة ومشروعة، إلى حد دفع البعض لعدم الثقة بتدخلها العسكري والخشية من أن يكون ذلك مغامرة استعراضية يدفع ثمنها الشعب الفلسطيني، وقد يستفيد منها عن قصد أو غير قصد اللاعبون الاخرون.

إلا أن وجهة نظري المتفهمة لهذه المخاوف، وعدم إغفال أو تجاهل حاجة إيران الماسة لأوراق ضغط، خاصة فيما يتعلق بالمفاوضات حول ملفها النووي وتوسيع نفوذها في المنطقة، يجب ألا تدفع إلى المبالغة في مقدرة إيران على ذلك، فمن الواضح أن رياح الانتفاضة الفلسطينية هذه المرة تجري بعكس ما يشتهي قادة طهران.

الانتفاضة التي انطلقت من القدس وشملت كل مناطق ال48 لم تبدأها حماس من غزة، وما يجري أكبر من قادتها، وقد يكون تحرك قواعد الحركة وقادة كتائب القسام، وإطلاق الصواريخ باتجاه المستوطنات والعمق الإسرائيلي، هو خيار هؤلاء القادة العسكريين، غير العابئين بالسياسة وبإيران.

وبعيداً عن مواقفنا المسبقة من حماس والجهاد الإسلامي، هل يمكن لغزة ألا تنتفض وتنتصر للقدس ويافا وعكا وحيفا واللد، وإذا لم تغضب وتستخدم صواريخها اليوم لنصرتهم فمتى ستستخدمها؟! فغزة ليست حماس والضفة ليست محمود عباس والقضية الفلسطينية أكبر من الجميع.

ورغم أن هناك من يرى تهويلاً إعلامياً لفاعلية تلك الصواريخ ومدى تأثيرها عسكرياً، إلا أنه لا يمكن إغفال أثرها المعنوي على المزاج الإسرائيلي العام ومدى الخوف والهلع الذي تسببت به لهم.

إن موقف قوى الثورة السورية كان واضحاً وصريحاً في تعبيره عن موقف الشارع السوري المساند والمتعاطف والداعم لثورة المقدسيين، مدركين بأن الأنظمة المستبدة، وما يسمى بحلف المقاومة والممانعة قد تاجر بالورقة الفلسطينية بما يكفي، وأنهم ليسوا أمناء عليها، وهم من أضعفوا الكفاح الفلسطيني ودمروا مخيماته في تل الزعتر واليرموك وبقية المخيمات خدمة للكيان الصهيوني.

لم يكن مصادفة أن يُرفع علم الثورة السورية دون غيره الى جانب العلم الفلسطيني في باحة الأقصى، وأن ينشد الفلسطينيون في أسواق القدس القديمة وفي حاراتها أناشيد عبد الباسط الساروت، ولم يكن أيضاً مصادفة أن تدعو النساء والعجائز والمصلون في باحة الأقصى لسوريا وللشعب السوري المظلوم ولخلاصه من الظلم، فهذا السلوك العفوي ما هو إلا تعبير عن موقف أصيل للشعب الفلسطيني الذي عبّر بوضوح عن انحيازه إلى الثورة السورية، رافضاً استغلال تضحياته من أي طرف، ودليلاً واضحاً على صوابيه الرؤية والموقف ومدى الترابط القومي والإنساني الذي يجمعنا سوياً، فلا يمكن للثائر السوري إلا أن يكون مع قضية فلسطين، والعكس من ذلك الثائر الفلسطيني الذي لا ينحاز الى ثورة الشعب السوري وهمومه وتطلعاته بنيل حريته لن يكون صادقاً في انتمائه لقضيته.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا