قانون قيصر .. العقوبات الاقتصادية والمعضلة الأخلاقية

مع اقتراب تفعيل “قانون قيصر” (يدخل اليوم، 17 يونيو/ حزيران، حيز التنفيذ)، بما يتضمنه من عقوبات اقتصادية على النظام السوري وحلفائه؛ تشهد الليرة السورية تراجعاً حادّاً في قيمتها مقابل الدولار الأميركي، تزامن هذا التراجع مع ارتفاع كبير جداً في أسعار السلع والمواد الأساسية ونقص أدوية وسلع وفقدانهما في السوق السورية، نتيجة حالة الترقب والخوف من مستقبل الليرة بعد تفعيل العقوبات، الأمر الذي دفع تجّارا عديدين إلى إغلاق محالهم، بانتظار ما سيؤول إليه سعر الصرف.

وبطبيعة الحال، فاقم هذا الوضع من معاناة المواطن السوري، ليس فقط في مناطق سيطرة النظام، وإنما على اختلاف مناطق النفوذ والسيطرة، والتي لا تزال تعتمد على الليرة السورية في تعاملاتها اليومية. في المقابل، وعلى الجانب السياسي، يحاول النظام، كعادته، استغلال القانون، وما يحمله من عقوبات، وتوظيفه في خدمة بروباغندا “المقاومة والصمود في وجه المؤامرة الأميركية”، ولكن المستغرب كان الانقسام داخل صفوف المعارضة السورية بشأن قانون قيصر، حيث عبّرت شخصيات عديدة محسوبة على المعارضة عن مخاوف وقلق من تطبيقه، مدفوعين بحرصهم على المواطن السوري الذي سيزيد تفعيل العقوبات من معاناته المعيشية، من دون المساس بالنظام، مؤسسات وأفرادا.

وفي سياق تلك المخاوف، يتم تقديم الاعتراض على القانون بوصفه “مُعضلة أخلاقية”، وهو موقفٌ لا بد من احترامه في جانبه العاطفي، وجزءا من الجدل الفلسفي الطويل في السياسة والأخلاق. ولكن في المقابل، لا بد من الرد عليه، كي لا يكون الطرف الآخر المؤيد للقانون في جانب المعارضة منزوع المشاعر، ولا يكترث لمعاناة المواطن السوري في الداخل جرّاء العقوبات.

ولعل فض الاشتباك بشأن القانون، لا بد أن يمرّ من خلال نقاش مؤشرات الاقتصاد السوري الحاليّة، قبل تطبيق القانون، ومستوى معيشة المواطن السوري في ظل هذا الاقتصاد، وصولاً إلى معرفة ما إذا كان تطبيق القانون يمثل “معضلة أخلاقية” فعلاً؟ ففي أحدث دراسة حول الأثر الاقتصادي للصراع الدائر في سورية منذ عشرة أعوام؛ بلغ حجم خسائر الاقتصاد السوري 540 مليار دولار، مع 40% نسبة دمار في البنية التحتية، كما بلغت نسبة البطالة 42.3%، بينما بلغت نسبة الفقر بين السوريين في الداخل 85%. أما بالنسبة إلى الدَين العام فقد بلغ 208% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي.

إذاً، نحن نتحدّث عن اقتصاد مُنهار فعلياً قبل تطبيق العقوبات. إضافة إلى ذلك الانهيار الحالي في سعر الصرف ما هو إلا حلقة في سلسلة بدأت مع أزمة المصارف اللبنانية، والتي قيدت حجم السحب من القطع الأجنبي لزبائنها، ومنهم السوريون الذين تبلغ ودائعهم في المصارف اللبنانية 45 مليار دولار، ما دفع إلى زيادة الطلب داخل السوق السوري لتمويل الاستيراد، وبالتالي ارتفاع سعر صرف الدولار في سورية كونه أصبح سلعةً تخضع لقانون السوق، بعيداً عن المؤشرات الاقتصادية.

ثم تفاقمت الأزمة نتيجة الصراع داخل النظام السوري، بين بشار الأسد ورامي مخلوف، حيث يبدو أن الأخير استخدم أذرعه من صرّافي السوق السوداء، للتلاعب بسعر الصرف، وسيلة ضغط على النظام، ليأتي قرب تفعيل العقوبات الاقتصادية قانون قيصر حلقة أخيرة في سلسلة هبوط الليرة السورية، ولكن ليس بشكل مباشر، وإنما عبر إيجاد حالةٍ من الخوف لدى أصحاب رؤوس الأموال بالليرة السورية، دفعتهم إلى استبدالها بالعملات الأجنبية والذهب، تحسباً لانهيار أكبر. إذاً، وحتى الآن، لم يساهم القانون بشكل مباشر في تراجع سعر صرف الليرة السورية وارتفاع الأسعار، وإنما فساد نظام الأسد وداعميه من تجار ورجال أعمال هو المسؤول المباشر عما يحدث لليرة.

وبالنسبة للسوريين من خارج دوائر فساد النظام؛ فلم يكونوا في بحبوحة اقتصادية قبل قانون قيصر، والذي قد يسلبهم “عيشهم الرغيد” بعد تطبيقه؛ فهؤلاء يعيشون في ضيقٍ منذ سنوات الأزمة الأولى، وابتكروا عشرات من الطرق التكيفية في سلوكهم الاستهلاكي ونمطهم الشرائي للحفاظ على حد الكفاف، حيث يمكن تقسيمهم إلى شريحتين خارج دوائر فساد النظام من مؤسسات حكومية وعسكرية وتجارية:
يقدّر حجم الأولى بـ 55% من الأسر السورية التي تعتمد على تحويلات أبنائها من المغتربين، حيث بلغت قيمة صافي التحويلات في 2016، بحسب المكتب المركزي للإحصاء، 2.3 مليار دولار بمعدل وسطي يومي 6.5 ملايين دولار، وبلغت نسبة مساهمة التحويلات الخارجية في الدخل القومي للعام نفسه 19%، وهي نسبة تفوق نسبة مساهمة الصناعة ومبلغ الدعم الاجتماعي الذي خصصته الحكومة في ميزانية 2016. وتعبّر تلك الأرقام عن التحويلات التي تمرّ بالقنوات الرسمية فقط، وهي أقل بكثير من الرقم الحقيقي، كون غالبية التحويلات تتم عن طريق قنوات غير رسمية وسوق سوداء للهروب من عملية النهب التي يقوم بها “مصرف سوريا المركزي” عبر تقديم سعر صرف للحوالات، يقل بكثير عن سعر صرف السوق السوداء. الشريحة الثانية، وهي الأشد فقراً واحتياجاً، تعتمد كليّا على مساعدات المنظمات الإنسانية، وما بقي في المجتمع السوري من تكافل بعد سنوات الحرب العصيبة، إضافة إلى الأعمال البسيطة التي تدر عليهم بعض الدخل.

لن تتأثر تلك الشريحتان بشكل مباشر من تفعيل عقوبات قانون قيصر؛ فالتحويلات الخارجية، وإن تم التضييق عليها جرّاء القانون، فستستمر غالباً عبر القنوات غير الرسمية، وخصوصاً أن تلك القنوات تستخدم لتهريب الأموال خارج سورية، عبر عملية مقايضة، يتم من خلالها تسليم مبلغ الحوالة بالعملات الأجنبية في بلد ما، وتسليم ما يعادلها داخل سورية بالليرة. أما بالنسبة للمساعدات الإنسانية، والتي تعني الشريحة الأكثر فقراً، فقد استثناها القانون من العقوبات.

وبخصوص موارد الدولة السورية من قطاع الطاقة، والتي ستطاولها عقوبات القانون، حيث نص على معاقبة أي حكومة أو مجموعة تُسهّل من صيانة (أو توسيع) إنتاج الحكومة السورية المحلي للغاز الطبيعي والبترول ومشتقاته، فتلك الموارد أصلاً تم رهنها للشركات الروسية مقابل الدعم العسكري الروسي، الرسمي أو عبر المرتزقة من ناحية. ومن ناحية أخرى، فإن 85% من نفط سورية وغازها خارج عن سيطرة الحكومة، وبيد مليشيا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة أميركياً، فإجمالي ما يتم إنتاجه من حقول النفط التي يسيطر عليها النظام لا يتجاوز 24 ألف برميل يومياً، كما أن طوابير الانتظار أمام محطات الوقود ومراكز توزيع الغاز أصبحت مشهداً معتاداً في مناطق سيطرة النظام منذ سنوات، وهو ليس نتيجة عقوبات “قيصر”، وإنما نتيجة توظيف النظام الوقود المتوفر في خدمة مجهوده الحربي في قتل السوريين.

وبالنسبة للعقوبات المتعلقة بعملية إعادة الإعمار؛ فإنها افتراضية على اعتبار ما سيكون، وليس ما هو كائن، بمعنى أن المواطن السوري لن يتأثر بشكل مباشر إذا ما تأخرت عملية إعادة الإعمار، ولكن النظام هو من سيتأثر مباشرة؛ لأن العملية، وفقاً لتصور النظام وحلفائه، تهدف إلى القفز فوق الحل السياسي، وتعويم النظام وتدعيم انتصاره العسكري بشكل سياسي واقتصادي، إضافة إلى مكافأة مجرميه وداعميه، بفتح مجالات للاستثمار في مشاريع ومدن سكنية فاخرة، لا يحلم المواطن السوري العادي، حتى بالمرور قربها، وليس السكن فيها.

ومن يتابع عملية تشكيل الشركات المعنيّة بالإعمار في السنوات الماضية داخل سورية، سيجد أن جميع تلك الشركات مملوكة لرجال أعمال عراقيين ولبنانيين مع رجال أعمال سوريين، وجميعهم مجرّد واجهات اقتصادية لداعمي النظام من الدول والمليشيات.

إذاً، المعضلة الأخلاقية ليست في أثر عقوبات قانون قيصر على المواطن السوري، وإنما في طريقة تعاطي أصحاب الموقف العاطفي المعارض للقانون معه، فهم ينظرون إلى جانبه الخاص بالعقوبات فقط، ومن سيطاولهم أثر تلك العقوبات من السوريين، في حين يتناسون جوهر القانون وأسباب صدوره، والأهم من ذلك شروط تجميده وإيقاف العمل به.

وهنا السؤال لأصحاب الموقف الأخلاقي: أليس من حق 13 مليون نازح داخلي وخارجي من السوريين أن يعودوا إلى منازلهم بأمان؟ هل سمعتم عن وضع السوريين في مخيمات اللجوء الداخلي أو في دول الجوار؟ وكم حالة انتحار تقع في تلك المخيمات، نتيجة العجز عن تأمين لقمة الخبز للأبناء؟ ألا يحق لمئتي ألف معتقل في سجون النظام أن يرتاحوا من الجحيم اليومي الذي يعيشونه؟ وهل كثير على السوريين في ما تبقى من مناطق محرّرة أن يعيشوا في أمان بعيداً عن قصف طائرات الأسد وسلاحه الكيميائي؟ والسؤال الأكثر أهمية: ما البديل عن قانون قيصر للضغط على النظام وموسكو للانخراط بجدية في العملية السياسية؟

تلك هي الشروط التي حدّدها القانون لتجميد العقوبات، وهي بذاتها الأسئلة الحقيقية التي تحدد البوصلة للموقف الأخلاقي منه، حتى وإن كنا على ثقةٍ بأن العقوبات لم تسقط نظاماً ديكتاتورياً في الماضي، وقد لا تسقط نظام الأسد اليوم، ولكن يبقى قانون قيصر الخطوة الأكثر جدّية من الولايات المتحدة للضغط على النظام عبر بوابة الاقتصاد. ومن دونه، سيستمر هذا النظام وستستمر معه معاناة جميع السوريين، ولن يكون أمامنا حينها سوى اللطم والتباكي على تخاذل المجتمع الدولي.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا