أبعد من معركة شرق الفرات

قال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان “إن بلاده قد تشن عملية عسكرية ضد الميليشيات الإرهابية في سوريا إذا اقتضى الأمر”، مؤكدا أن “العملية قد تنفذ عند الضرورة ولا يمكن التراجع عنها”. أنقرة متمسكة بما رددته أكثر من مرة حول ضرورة إبعاد خطر مجموعات “قسد” عن حدودها باعتبارها امتدادا لـ “حزب العمال الكردستاني” المصنف على قوائم الإرهاب عالميا، وأنها سبق وفعلت ذلك أكثر من مرة في السنوات الأخيرة ولن تتأخر في مواصلة حربها على هذه العناصر التي تهدد أمنها القومي وأمن سوريا ووحدتها.

التعبئة العامة التي أعلنتها تركيا في شمال سوريا بالتنسيق مع وحدات الجيش الوطني السوري استعدادا لسيناريو شرق الفرات، قد تشمل منطقة إدلب إذا ما قرر النظام تفجير الوضع هناك دعما لـ “وحدات الحماية” وعناصر حزب العمال في إطار صفقة روسية – أميركية لتوحيد الجبهات ضد تركيا بمشاركة الميليشيات الإيرانية التي بدأت تصل إلى المنطقة. السلاح الأميركي بيد “مسد” وبمشاركة دمشق والوحدات القادمة من بيروت وبغداد بتخطيط إيراني. فهل تقود موسكو تركيبة من هذا النوع في مواجهة الجيش التركي وشركائه في فصائل المعارضة السورية؟

ما الذي كان يقصده وزير خارجية النظام فيصل المقداد وهو يقول “إن وحدات حماية الشعب في شرق الفرات تعرف الطريق إلى دمشق وما هو المطلوب منها”؟ هل كانت دعوة موجهة لمجموعات “قسد” كي تقطع علاقاتها بأميركا ومن بقي ناشطا في التحالف الدولي وتلتحق بدمشق؟ أم هو يعلن أن الأسد سيكون متسامحا معها إذا ما وضعت السلاح الأميركي تحت تصرفه؟ أو ربما يمني النفس أن تتوسط هذه الوحدات بين النظام وواشنطن مستغلا فرصة تدهور العلاقات التركية الأميركية وهي خلطة تفاهمات قد ترضي الكرملين أيضا؟ ما نوقش بين قيادات الأركان الأميركية والروسية في هلسنكي ولساعات طويلة؟ هذا ما يقلق أنقرة أيضا.

لم تحسم 4 عمليات عسكرية تركية بالتنسيق مع الفصائل السورية جرت بين عامي 2016 و2020، والعديد من التفاهمات واللقاءات على خط أستانة – سوتشي الوضع الميداني في شمال شرق سوريا فهل قررت أنقرة إسقاط هذه الورقة من يد بعض الذين يحاولون مرة أخرى لعبها ضدها؟

حذر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نظام الأسد قبل أسابيع من محاولة استهداف القوات التركية وهو يعلن أن ساحة العمليات ستكون “في مناطق حساسة”. تقديرات إعلامية تركية تتوقع أن تتمدد حدود العملية التركية المرتقبة إلى مساحة 500 كلم وبعمق 50 كلم في بعض المناطق لحسم مسألة المنطقة الآمنة وتسهيل عودة مئات الآلاف من السوريين إلى أرضهم. فلمن ستكون الغلبة لمشروع إيصال النظام إلى مناطق الحدود التركية مجددا أم لإنشاء المنطقة الآمنة لتكون مقدمة لتفاهمات سياسية إقليمية حول سوريا؟

هناك حديث عن بروتوكول تركي – روسي جديد في إدلب. إذا افترضنا أن الأولوية لن تكون في التصعيد العسكري على هذه الجبهة فمن الذي سيحارب تركيا في شرق الفرات؟ الإجابة ستساعدنا كثيرا على قراءة تطورات المشهد الميداني والسياسي في سوريا. تكرر الأصوات الواردة من البيت الأبيض والخارجية الأميركية أن لا تبدل في مواقف واشنطن حول نظام الأسد فكيف ستوافق أميركا على تجمع كل هذه التناقضات تحت سقف واحد في مواجهة القوات التركية في شرق الفرات؟

هل تكون المواجهة بين السيناريو التركي الذي بات معروفا وبين سيناريو آخر نوقش في تموز المنصرم بين العاهل الأردني والرئيس الأميركي بايدن خلال زيارته لواشنطن خصوصا وأن الملك عبد الله دعا من هناك لنكون واقعيين في سوريا “هل نبحث عن تغيير الأسد أم تغيير السلوك؟”. هل حدث التفاهم الأميركي الروسي على إسقاط ورقة اللعب على التناقضات من يد أنقرة أم أن الحراك التركي والأردني يلتقي في مكان واحد؟

مسرح العمليات العسكرية المتوقع سيكون مختلفا عن بقية المناطق التي نفذت فيها القوات التركية والفصائل 4 عمليات مشتركة منذ العام 2016 وحتى اليوم. هنا الأميركي والروسي وقسد والنظام والميليشيات الإيرانية التي جاءت لإنقاذ مصالح إيران تحت المظلة الروسية وبلباس وحدات النظام. وهنا أيضا المسافات الفاصلة بين الخنادق والمتاريس التي لا تتجاوز مئات الأمتار في بعض الأحيان، إلى جانب حركة الطيران الحربي النشطة أميركيا وروسيا وتركيا والتي ترصد بعضها البعض.

أعلن المتحدث باسم وزارة الدفاع الأميركية جون كيربي قبل أيام، أن واشنطن تتمسك بإبقاء قنوات الاتصال مفتوحة مع موسكو في سوريا لتجنب وقوع أحداث غير مرغوبة بين الطرفين هناك. هل ينطبق ذلك على سيناريو مواجهة تركية روسية أو تركية أميركية في المنطقة إذا ما قرر أحدهم التدخل لحماية الحلفاء المحليين في مواجهة القوات التركية؟

بعد أيام قليلة على انعقاد القمة التركية الأميركية في روما بين الرئيسين أردوغان وبايدن تحدثت وسائل الإعلام عن دخول 50 شاحنة محملة بالسلاح والذخيرة والدعم اللوجستي الذي تقدمه أميركا إلى مجموعات “قسد” حليفها المحلي في شرق الفرات عبر أراضي شمالي العراق ومعبر الوليد الحدودي. إما أن تفاهما تركيا أميركيا حول مسألة شرق الفرات واحتمالات العملية العسكرية التركية لم يتم. وإما أن واشنطن قلقة من تفاهمات تركية روسية على حسابها هناك، تفتح الطريق أمام انسحاب هذه المجموعات من مناطق متداخلة على مقربة من الحدود التركية السورية وهي التي دفعتها للحوار المباشر مع موسكو عبر “قسد” لقطع الطريق على العملية التركية وتبعاتها العسكرية والميدانية والسياسية على مصالح واشنطن السورية. وسائل إعلام عديدة تتناقل أنباء عرض روسي بانسحاب الوحدات الكردية إلى عمق 32 كلم جنوب الطريق الدولي إم – 4 مقابل إقناع روسيا لتركيا بالتخلي عن عمليتها العسكرية. لصالح من ستكون عملية تغيير الخارطة هناك؟ انتشار وحدات النظام أم تفاهمات تركية روسية على توفير الحماية والضمانة المطلوبة لتسهيل عودة حوالي 200 ألف سوري إلى تلك المناطق؟

تزايد عدد التحليلات الإعلامية والسياسية التي تتوقع اقتراب موعد العملية العسكرية التركية في شرق الفرات، لكن هناك من يعتبر أن المفاجأة ستكون عند تحرك القوات التركية وحليفها الجيش الوطني السوري على جبهتين في آن واحد في شمال سوريا.
حصول أنقرة على ضوء أخضر أميركي وروسي أو موافقة أحد الطرفين على الأقل مهم بالنسبة لتركيا. لكن ذلك لا يعني أن قرار القيادة التركية سيكون تحت رحمة الموافقة أو القبول الأميركي والروسي، حتى ولو كانت أنقرة تعرف أن عمليتها هذه المرة ستكون مختلفة عن العمليات التي نفذتها مع حلفائها السوريين حتى الآن. فالاصطفافات مختلفة والجغرافيا مغايرة وتداخل المصالح والحسابات تعقد الأمور أكثر فأكثر. كما أن البعض سيحاول فتح جبهات ومحاور جديدة لإرباك القوات التركية لكن القيادة التركية نفسها قد توسع رقعة الجبهات لتوسيع رقعة المنطقة الآمنة التي تريد تفعيلها في إطار تفاهمات جديدة مع واشنطن وموسكو وتجمع مناطق من إدلب وتل رفعت ومنبج وعين عيسى وعين العرب مصحوبة بتمدد جنوب كوباني وتسويات جديدة حول مصير مدينة القامشلي.

قال أردوغان “توصلنا مع الولايات المتحدة، حليفتنا في الناتو، إلى تفاهم بشأن العمل المشترك حول مسألة قسد ولم نلمس منهم أي موقف سلبي”. هل يشمل ذلك احتمال وجود تفاهمات جديدة تتعلق بفتح الطريق أمام تمويل المنطقة الآمنة التي تتحدث عنها تركيا باستخدام إيرادات النفط في شرق الفرات وعندها سندخل في نقاشات صفقة ثلاثية تركية أميركية روسية جديدة تكون الخطة التركية في الشمال جزءا منها في إطار دفع تفاهمات المرحلة الانتقالية في سوريا نحو مسار جديد؟

كشف وزير البناء والإسكان الإسرائيلي زئيف إلكين، الذي تولى عملية الترجمة في لقاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بنيت في سوتشي قبل أسبوعين تقريبا، أنهما تفاهما على العمل معا لإخراج إيران من سوريا. هل هناك علاقة بين هذا اللقاء والتصريحات المعلنة وبين سيناريوهات مرتقبة عسكرية وسياسية في المشهد السوري ككل؟ أم أن الاحتمال الذي يردد له البعض في الإعلام العربي حول تحريك واشنطن لمجموعات التحالف الدولي ضد “داعش” في شمال شرقي سوريا، هدفه قطع الطريق على كلا التحركات التركية والإيرانية في المنطقة هو الأقرب للتطبيق؟

موافقة البرلمان التركي على تمديد الصلاحية الممنوحة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان عامين إضافيين، لتنفيذ عمليات عسكرية في سوريا والعراق، وما أعقبها من تطورات ميدانية وعسكرية على الجبهات تدفع بالإبرة نحو احتمال اقتراب موعد العملية العسكرية التركية. ورسائل التودد من قبل قيادات في “قسد” و”مسد” باتجاه النظام تحت عنوان “من يحكم في دمشق هو من يمثل سوريا في المحافل الدولية”، لن تنقذها من براثن الأسد حتى ولو اكتملت المصالحة بينهما وأصبحا مثل السمن على العسل.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا