اقبروه! بدنا نعيش!

بعد يومين، يكون قد مرّ عقدان بالتمام والكمال على غياب جثة حافظ الأسد؛ ولكن هناك مَن لا يريده أن يموت. بهذه المناسبة، حضرت في ذهني رواية الكاتب الإنكليزي “جورج أرويل” 1984، التي يتحدث فيها عن انسحاق إنسان ذلك الزمن، الذي كتب عنه أرويل، أمام آلة الاستبداد.

يقول “أرويل”: ” ….. إن الطريقة الوحيدة لجعل (وينستون- أحد شخصيات روايته) يعتقد أن ٢+٢=٥، هي بكسرِه، وإلغاء شخصيته، وأي منظومة منطق أو محاكمة لديه؛ إلى درجة فقدانه تبرير ذاته لذاته”.

في سوريا، وبعد سنوات من الخوف والقتل والاعتقال والتدمير والتشريد والذل والإهانة والعوز؛ ما زال “ونستون” سوريا يقف إلى جانب مَن تسبب بكل ذلك؛ ولا يستطيع تجرع موت حافظ الأسد. فهل من أمل بأن يترك هكذا مُستَلَب ذلك المخلوق يموت؟! قبل الدخول بالمأمول المحتَّم أو القدري، لا بد من البحث في كيفية تشكُّل تلك الظواهر في /سوريا الأسد/ عبر رصد حوادث من “التربية العقائدية” التي أوصلت السوريين إلى حال كهذا، فأنتجت منظومات ذهنية غريبة سيطرت على عقل وموقف وسلوك أولئك البشر، وأي آلة جهنمية تكمن وراء سحق تلك الشخصية السورية بهذه الطريقة، كي تفعل ما تفعل.

تنقل الكاتبة الأميركية “ليز ويدن- Liz Weeden” في كتابها عن سوريا  The Ambiguities of Domination (غموض الهيمنة) رواية عن زيارة قام بها ضابط “التوجيه المعنوي” في “الجيش السوري”؛ وطلبه الاستماع إلى /أحلام/ ضباط تخرجوا حديثاً. قال الأول:

“يا سيدي رأيت القائد المفدى (يقصد الأسد) يشع بنوره في السماء، وبدأت أضع سلماً فوق سلم، وأصعد عليها؛ كي أقترب، وألمح وجهه الوضاء، والنور الذي يشع من محيّاه.”

زميله الثاني أراد أن يفوقه بقصة حلمه، فقال:

“لقد شاهدت القائد الخالد المفدى العظيم في السماء يمسك الشمس بيمينه فيدمرها، ويسود للحظة الظلام الحالك، ثم يشع نور لم أرَ مثله في حياتي، ويضيء الأرض والسما، وكان نور وجهه”.

في القصة نمذجة أساسية ميّزت الحياة السياسية السورية، تتمثل بمطلب النظام الخفي بأن يأتي المواطن بدليل خارجي يثبت ولاءه لمعبود الجماهير ويكرس طقوس الطاعة، حتى ولو كانت خلبيّة. تتجلى تلك الطقوس بسبغ الألقاب بشكل آلي لاشعوري على القائد؛ فهو “المعلم الأول” “المهندس الأول” “الطالب الأول” “الكيميائي الأول” “الفارس الأول” “محرر لبنان” “القائد الأبدي”؛ أي تحويله إلى أيقونة تخليد أبدية تجدها على الجدران والسيارات والمؤسسات، ويقال حتى في القلوب؛ فالمنظمات الشعبية والنقابات المهنية والمؤسسات الحزبية والأمنية والعسكرية والاقتصادية تتداعى لتمجيد القائد وتكريس العبادة في طقوس لا مثيل لها إلا في كوريا الشمالية.

في ظل كل ما حدث في سوريا، ظاهرة الانمساخ هذه تستدعي التفكير والبحث في كنه وطبيعة النمط الذهني السائد والمزمن لدى مواطنين لم يرهم النظام يوماً إلا جراثيم ومشاريع أعداء -إن هم خرجوا قليلاً عن مسار العبودية التي كرسها على مدار عقود زمنية. إن مسالة الخوف مفهومة، وحالات الخبث والتقية والكذب ليست عصية على الرصد؛ ولكن هل هناك نوع آخر من الخلق وصلوا إلى درجة من الانسحاق الذاتي، الذي عادة ما يصيب السجين أو الأسير أو الرهينة أو المختطف أو العبد، بحيث يطوّر في داخله نوعاً من القوة القمعية الداخلية التي تجعله يزرع شرطياً في دماغه يراقبه ويأمره ويتحكم بمسلكه حتى بمشاعره وأفكاره، ويدفع به باتجاه الخضوع والاستسلام لجلاده، ليرى فيه المنقذ والمخلّص والأقوى والأعظم؟!

لا شيء تمكّن من تغيير هكذا “عقول”؛ صعبٌ على هؤلاء أن يقبلوا أن حافظ الأسد شبع موتاً؛ لكن ما استُنسِخ عنه (وريثه) لم يشبع دماً بعد. يصعب على هؤلاء أن يدركوا أن هناك نسخة واحدة من حافظ الأسد لا تصلح لكل زمان ومكان وحدث إلا في العقول المخالفة للكينونة الآدمية ومسار حياتها. تلك البصمة الأسدية ليست قانوناً رياضياً أو فيزيائياً.

أرادت تلك “الأدمغة” أن تستنسخ حافظ الأسد بابنه باسل، ولكن القدر عاكسها؛ وماتت النسخة. ثم أتى الاستنساخ على طريقة “دولي”، فكانت صادمة. رغم ذلك لم ييأس المطبّلون. عام ثمانية وتسعين سمعت أحدهم يقول: “إننا نظلم بشار عندما نقارنه بباسل؛ فخلال عامين (من إعداده)، تجاوز ما فعله باسل بأعوام”.

بعد خمسة أعوام من حكم النسخة “دولي”، كان الخروج المُذل من لبنان؛ وكان الاهتزاز الأول لعرش الأسدية. بعدها بست سنوات، كان الاهتزاز الأكبر؛ حيث أن مجرد دخول قوى مسلحة خارجية لإنقاذ السلطة في سوريا، قد دقَّ المسمار الأكبر في نعش الأسدية، التي لم تهددها قوة خلال أربعة عقود. صمد عرش الاستبداد، لكن جذور بقائه اهتزت.

مع انطلاقة الثورة السورية، كانت اللعنات تنزل على البصمة الأساس: “حافظ”؛ فثأر له العبَدَة بالقتل والتدمير والاعتقال والتشريد لكل مَن لعن؛ والتصقوا أكثر بالمستنسخ كرما للبصمة الأساس. ونتيجة لمركبات النقص لدى “النسخة دولي”، شهد السوريون محاولات التميّز عند استخدام السلاح الكيماوي مع الاحتفاظ بتكرار سردية “المؤامرة الكونية” ومحاربة الإرهاب من دفاتر النسخة الأساس.

عشاق الأسدية وعبيدها استحضروا روح الأب المؤسس، لأنه يصعب عليهم التسليم بانتهاء تلك النسخة من الأسدية؛ فترى كثيرون منهم يقول: لو كان حافظ – أو حتى باسل- لسارت الأمور غير ذلك. وهذا أيضاً حَرَقَ الكثير من أوراق النسخة الممسوخة. لقد كان الحرق النهائي لتلك الروح، عندما قام مَن يعبدها بقتل السوري الآخر؛ ليس فقط انتقاماً لها، بل أملاً بعودتها وعدم التسليم بنهايتها.

ما يشهده السوريون مؤخراً -وربما العالم- هو أنه ولأول مرة ربما يدرك عَبَدة حافظ الأسد بأنه لن يعود. بقي ربما أن تُدفَن روحه التي تلبّستهم مع الجسد الراقد في القرداحة. وهاهم كأي سوري ينتظرون خلاصاً من نوع ما. ولكن لا بد لتلك الجثة أن تُدفَن؛ وأقصد الجثة العفنة التي تحتل أدمغتهم؛ وليُدفن “ونستون” معها. سوريا تقول لهؤلاء: ادفنوه! اقبروه! بدنا نعيش.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا