الاجتماع الوطني السوري بين الخراب واحتمالات الترميم

بصورة متوازية مع خراب العمران، تفكك المجتمع السوري أيضاً وباتت إعادة تجميعه من نوع “المهمة المستحيلة”. ومع ذلك لا تنفك تظهر محاولات جديدة كل حين وحين في شكل أحزاب وتيارات ومؤتمرات وتجمعات سياسية تعلن مبادئ الاجتماع السوري (المحتمل) فتكرر بعضها بعضاً، بغير فاعلية يمكن المراهنة عليها. يقال، في تبرير غياب الفاعلية هذا، إن مصير سوريا والسوريين قد خرج من أيديهم وبات رهن توافقات (أو تنافرات) القوى العظمى والإقليمية المنخرطة في الصراع والممسكة بأوراق التسوية السياسية التي، بدورها، لا تني تبتعد كالسراب.

على صحة هذا التقرير، فهو لا يفسر لماذا تنبت أطر سياسية جديدة، كل يوم، قبل أن تشيخ سابقاتها، مع أنها تكرر المبادئ ذاتها، وأحياناً يكون القائمون على إطلاق المبادرة الجديدة، هم أنفسهم، جزئياً أو كلياً، من أطلقوا مبادرات سابقة فشلت ولم يعلنوا عن دفنها.

لماذا لا يتم التمعن في الأوراق السياسية (بيانات تأسيس أو برامج سياسية أو إعلانات مبادئ… إلخ) بعين نقدية ترى الخلل في المبادئ المكرورة، بدلاً من البحث عنه خارجها؟ لماذا لا تتم مراجعة مبادئ لطالما بدت كبديهيات لا تقبل المناقشة؟ سأضرب مثالين ملحين: وحدة الأراضي السورية، وعلمانية الدولة.

غالباً ما نقرأ في الأوراق السياسية لأطر جديدة بنداً أساسياً يتحدث عن التمسك بالجغرافيا السورية “وطناً نهائياً لجميع السوريين”. إن كلمة “نهائياً” هذه تثير الذعر لدى مكونات لديها أحلام استقلالية كالكرد، كما لدى مكونات مذهبية لا يناسبها أن تحكم “إلى الأبد” من قبل “المكون الأكثري” (أي العربي السني). إن الموافقة على هذا المبدأ تبدو كالزواج الكاثوليكي الذي لا فكاك منه إلا بالموت.

ولكن هل الحل هو انفصال من يريد الانفصال، وتقطيع أوصال الأراضي السورية التي لا قبل لها بذلك بسبب مساحتها الصغيرة نسبياً؟ هل يمكن حقاً قيام عدة دويلات على أشلاء هذه المساحة المحدودة، وأن تكون قابلة للحياة؟

الجواب المرجح على هذين السؤالين هو النفي، بصرف النظر عن موقع من يعطي الجواب. مع ذلك يبقى تعبير “وطناً نهائياً” مثيراً للنفور، ليس فقط لدى مكونات عرقية أو ثقافية أو مذهبية لديها أحلام مختلفة، بل حتى لدى الأكثرية التي من حقها أن تحلم بوطن يتجاوز الحدود السورية الضيقة إلى مناطق مجاورة ينتمي سكانها إلى الهوية ذاتها (العربية السنية) مثلاً في بعض العراق وبعض لبنان والأردن.. إلخ. هذه ليست افتراضات مجردة أو متخيلة، على أي حال، بل سبق وتحققت بأشكال مختلفة في تاريخ سوريا الحديث، أو هناك قابلية لتحقق بعضها الآخر. فقد نشأت دولة واحدة، في نهاية الخمسينات، بجمع مصر وسوريا معاً تحت قيادة نظام سياسي واحد. كذلك، قامت، أيام الانتداب الفرنسي، عدة دويلات على أسس مذهبية وجهوية، وهناك حركة سياسية كردية نشطة، منذ الخمسينات، لا تخفي حلمها الاستقلالي، وإن كانت تستبعد ذلك على المدى القريب، وتدعو، بدلاً من ذلك، إلى نظام فيدرالي يأخذ بنظر الاعتبار التنوع العرقي – الثقافي في سوريا.

الخلاصة هي أن مبدأ “وطناً نهائياً” الذي نقرأه في معظم إعلانات التأسيس لحركات سياسية جديدة، يثير الكثير من التحفظات التي يحسن الإصغاء إليها، والبحث عن مبدأ بديل أو صياغة بديلة لا تنفر قسماً من المجتمع أو بعض مكوناته.

المبدأ الثاني المثير للجدل هو مبدأ علمانية الدولة. ومع أن الدولة الحديثة لا بد أن تكون علمانية لتكون دولة جميع السكان، لا دولة تمثل قسماً منهم وحسب، يثير التركيز عليه بصيغ “جافة” إذا جاز التعبير، تحفظ قطاعات اجتماعية تفهم من العلمانية عداءً للدين أو للإسلام بصورة خاصة. بصرف النظر عن خطأ هذا المفهوم، يبقى أن العلمانية تفرض فرضاً من فوق، أي بنوع من القسر.

يكاد قارئ مبادئ الأحزاب والتيارات التي تظهر كل حين يتخيل رجلاً فظاً في يده عصا غليظة ينهر السوريين صارخاً في وجوههم: “علمانية ولاك! سوريا وطن نهائي ولاك!” فيحني السوري المسكين رأسه بخنوع قائلاً: “أمرك سيدي! علمانية علمانية! نهائي نهائي!”.

في حين أن الأحزاب والتيارات السياسية التي تتبنى هذين المبدأين قائمة أساساً على مبدأ أول وأكثر تركيزاً هو مبدأ الديموقراطية والنظام الديموقراطي. كيف تتسق الديموقراطية مع عصا غليظة تفرض مبدأي العلمانية ونهائية الدولة؟

والحال أن فكرة العنف أو القسر مضمرة في البيانات موضوع حديثنا، ليس فقط ضد من يحتمل أن يرفضوا المبدأين المذكورين، بل كذلك جميع المبادئ التي من المفترض أن تكون موضوعاً لـ”عقد اجتماعي” جديد وفقاً للنوايا المعلنة لدى مختلف التيارات السياسية.

كيف يمكن، إذن، إعادة ترميم ما دمره النظام من الاجتماع السوري، سواء قبل الثورة والحرب أو بعدهما؟ كيف يمكن أن يتعاقد السوريون، أفراداً ومكونات، على عقد اجتماعي جديد يتوافقون عليه بغير قسر؟ وهل هو ممكن؟

هذه هي الأسئلة الصحيحة. وعلى المرء أن يختار بين بديلين: إما الإعلان صراحةً عن أن فرض بعض المبادئ “فوق الدستورية” كما تسمى أحياناً، يحتاج إلى قوة قسر وعنف. أو الإعلان صراحة عن احترام خيارات السوريين، أفراداً ومكونات، مهما كانت، أي بلا أي شروط مسبقة، وما ينطوي عليه هذا الخيار من احتمالات لا تستبعد حتى تفكيك الكيان السوري ذاته. يبقى أن المدخل الصحيح للتوافق على عقد اجتماعي جديد هو البحث عن المصالح المشتركة، بدلاً من التركيز على المبادئ المجردة التي تحتاج إلى قوة قسر لفرضها. على الناس أن يدركوا أن لهم مصلحة في “الوطن النهائي” وفي علمانية الدولة، لكي يمكن إعادة لملمة التفكك الاجتماعي السوري.

أما بشأن قوة القسر التي ورد ذكرها في الخيار الأول، فهي، في شروطنا الراهنة، قوى عظمى أو وكلاء إقليميين تم التوافق فيما بينهم على فرض نظام سياسي معين، بصرف النظر عن إرادة (أو إرادات) السوريين. أي نوعاً من قوة انتداب جديدة، لا تبدو القوى الاستعمارية التقليدية متحمسة لاستعادتها، باستثناء روسيا. لكن روسيا، بالمقابل، لا تملك تفويضاً أممياً لا بد منه للقيام بدور الانتداب.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا