الاحتفاء بأميركا: الخصوم ينافسون الحلفاء

لم يكن الاجتماع الرباعي المصري الأردني السوري اللبناني ليعقد لولا الموافقة الأميركية. أصبحت هذه المعادلة ثابتة في الدول الأربع، ولكن لا بدّ من النظر إلى ما وراءها.

جاءت هذه الخطوة في سياق أميركي عام يرتبط بالانسحاب أكثر فأكثر من المنطقة، والعودة إلى الداخل من جهة، والتركيز على مواجهة الصين من جهة أخرى. لم تؤدِّ هذه الخطوة الأميركية إلى انزعاج حلفاء واشنطن من العرب، ولم يقتصر الشعور بالخذلان على الشعوب التي توهّمت ذات يوم أن واشنطن تهتم لقضاياها، أو الشعوب التي حاولت الاستفادة من موجة أميركية لتحقيق أهداف سياسية.

أميركا هي الإمبراطورية الوحيدة في التاريخ القادرة على الاستمرار من دون حلفاء، أو اتخاذ قرار بتغيير جذري في تحالفاتها، وهي الإمبراطورية الوحيدة التي تتمكن من الإعلان عن حرب ما والانسحاب منها فيما بعد، من دون أن يسقط فيها النظام أو الحكومة.

تربك سياسية “أميركا أولاً” دولاً وعواصم وقارّات. جميعها كانت تستند على الوجود الأميركي الذي يشكل ضامناً للاستقرار، خصوصاً أن إمبراطورية بهذا الحكم أخذت على عاتقها تحمّل تكاليف أمن النظام العالمي الذي أرسته في الانتصار على الاتحاد السوفييتي وإسقاط صراع الثنائية القطبية، وأعادت تعزيزه في مرحلة ما بعد 11 من أيلول والحرب على الإرهاب، وصولاً إلى اليوم، المرحلة التي يسميها البعض الانسحاب الأميركي، وهي ليست كذلك.

يشبه النظام الذي أرسته واشنطن كمبنى مؤلف من طبقات متعددة، لكنها وضعت هندساته بدقة. المبنى مقسوم إلى أقسام وطبقات متعددة، وفي كل طبقة جهة أو محور أو تجمع دول ذات اتجاهات مختلفة، تنقسم على المذاهب السياسية أو الفكرية أو الإيديولوجية، وتنقسم بين شرق وغرب. وغالباً ما تجد هذه القوى المختلفة نفسها في حالة صراع تهدد المبنى ككل، ما يجعله بحاجة إلى تأهيل.

تعرف أميركا أن التأهيل ضرورّي والتغيّير حالة استمرارية. خصوصاً في كل ما له علاقة بالمجتمعات والشعوب والدول والنُظم، وفي مثل هذه الحالات تفضل الانكفاء كي لا تتضرر أو تتأثر، فالمبنى يحتاج إلى إعادة ترميم أو تأهيل أو تعزيز أساساته ومرتكزاته، وهي أول من يبادر إلى الانكفاء بانتظار إنجاز الأعمال والإشراف عليها.

من يعود إلى الحرب العالمية الأولى يكتشف ذلك تماماً، في حينذاك لم تشأ واشنطن التدخل وفضلت الاستمرار في حالة انزوائها إلى لحظة معينة اختارت الدخول بعدما أنهكت القوى وحسمت الوجهة. والأمر نفسه تكرر في الحرب العالمية الثانية، والتي كانت تأسيساً لتقدم أميركا على كل القوى الغربية في مواجهة الاتحاد السوفييتي.

حالياً يعاد تأهيل النظام العالمي الذي بدأ تأسيسه قبل 100 سنة. تهتم أميركا بأميركا، من دون إهمال أي من الملفات الأخرى، وخصوصاً ملف الصين والمحيط الهادئ، لذلك لا بد من الخروج من الشرق الأوسط، ما سيوقع الضرر لدى الحلفاء التاريخيين والاستراتيجيين. ويتزامن هذا التغير الكبير مع تنامي العنصرية واليمينية في العالم، فالاتحاد الأوروبي نفسه ينقسم على نفسه، وكان آخر مشاهد الانقسام مقومات سياسية هذه المرة وليست كورونية، خصوصاً الأزمة بين فرنسا وبريطانيا، وفرنسا وسويسرا.

واللافت أيضاً أن أميركا التي يطمح من يعلن لها العداء الدخول في علاقة معها وكسب تحالفها. تتحول إلى مطلب لخصومها، ومن كان يقاتلها للمغادرة أصبح يريد منها البقاء، من فيتنام إلى أفغانستان، وما بينهما من دول وأنظمة. والغريب أيضاً أن أول من يحتفي بالحصول على غمزة أميركية أو تحقيق هدف سياسي بموافقة الأميركيين هو أكثر من يعلن العداء لواشنطن والخصومة المطلقة لسياساتها، كإيران والنظام السوري الذين يحتفون بمنحهم استثناءات من قانون قيصر مثلاً.

خطوة الانكفاء الأميركي والاهتمام بالصين وبممرات النفط والغاز، لها انعكاسات على حلفاء واشنطن الأوروبيين والعرب (خصوصاً الخليجيين) وغيرهم. بينما يستفيد منها النظام السوري بشكل تفصيلي، وتستفيد منها طهران التي تعتبر نفسها أنها حاجة لأميركا ولا بد من الوصول إلى توقيع الاتفاق النووي لتعود طهران وتحظى بشرعية دولية واعتراف أميركي يخفف العقوبات تمهيداً لإزالتها. فيما تريد واشنطن لكل هؤلاء أن يتحولوا إلى جنود في معركتها ضد الصين.

وفي هذا السياق يتم التحضير للقاء قمة تجمع أميركا واليابان وأستراليا والهند. ولهذه الغاية وقعت المشكلة الأميركية الفرنسية على خلفية ملف الغواصات.

تحت سقف الصراع الاستراتيجي الأميركي، تسعى قوى متعددة في الشرق الأوسط إلى تعزيز حضورها وأدوارها، كتقدم مصر والأردن على الحلبة، انطلاقاً من وجهة نظر أن الخروج الأميركي ستحلّ مكانه جهات إقليمية، وهو لا بد أن يترافق مع مسارات سياسية جديدة، بدأت ملامحها في المنطقة من اتفاقية الغاز المصري والكهرباء الأردنية، ولا تنتهي بالتفاوض على ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، ولا التفاوض على مصير مزارع شبعا برعاية روسية أميركية، وهي مفاوضات قد بدأت منذ فترة، يعرف النظام السوري كثيرا من تفاصيلها، ويفتح دفاتره كلها للبحث عن الثمن الذي سيدفعه لقاء الاستمرار بالحصول على استثناءات أميركية.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا