الانسحاب الأميركي ينزع “السّحر” عن شرق الفرات

يهيمن الغموض على ملف شرق الفرات في سوريا، والذي يستطيع المرء بقليل من الجرأة أن يصفه بأنه واحد من أعقد الملفات الراهنة في العالم، نظراً لحجم ووفرة القوى الوالجة فيه. مع ذلك فإن عبارة سحرية يمكنها أن تلغي خطورة هذا الملف، وتحيله إلى تفصيل ثانوي في خريطة الصراعات الإقليمية والدولية، عبارة “انسحاب أميركي مخطط له”.

الانسحاب الأميركي من شرق الفرات وقاعدة التنف، ليس مجرد فرضية، إنه جزء من قرار استراتيجي اتخذته إدارة بايدن شمل أفغانستان والعراق، وسيكشف البنتاغون عنه في شهر شباط المقبل عندما يعرض استراتيجية الدفاع الوطني (NDS) للسنوات الأربع المقبلة، والتي يتوقع خبراء أميركيون أن تستبدل مفهوم “المنافسة الاستراتيجية”، بمفهوم “الردع المتكامل”، حيث ستقترح الخطة التركيز على تعزيز الردع النووي والتقليدي المتطور ضد الصين وروسيا، والتأكد من قدرة الجيش الأميركي على هزيمة منافسيه، من خلال تجنب هدر الموارد على الأنشطة اليومية في مناطق ليست ذات أولوية على حساب بناء هيكل القوة، وتحرير الموارد  لصالح جهود التحديث الملحّة للتكنولوجيات الفائقة.

بالنظر إلى هواجس استراتيجية بايدن، لا يمكننا العثور على ما يشير إلى فائدة محتملة من بقاء قواته في سوريا، أو صِلة ملحوظة للقوات الكردية بتلك الاستراتيجية، بما في ذلك محاربة تنظيم “داعش” الذي دأب قادة “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) على التحذير من عودته. فواشنطن التي أعادت طالبان بنفسها إلى سدة الحكم في أفغانستان، تعتبر أن الحرب على التنظيم واحدة من الحروب “التي لا يمكن إنهاؤها”. والبنتاغون يعرف أيضاً أن أنشطة “داعش” المنتظمة في سوريا باتت تنحصر في أربع قرى بريف دير الزور الشرقي، وليس من المحتمل أن ينشغل مخططوه عن عملية إطلاق الصين لصاروخ نووي تفوق سرعته سرعة الصوت ويستطيع أن يتجاوز الدفاعات الصاروخية الأميركية، بما يعنيه ذلك من تهديدات تمتد من بحر الصين الجنوبي إلى آلاسكا، ليولوا اهتمامهم لملاحقة منفذي عمليات الاغتيال من “داعش”، والتي تطاول سكاناً محليين في قرى الشحيل والزر وذيبان!

مع ذلك، فقد استجابت واشنطن لرجاءات إلهام أحمد، ووفدها الذي زار واشنطن مؤخراً، وعقب ضربة إغلاق المعابر الحدودية وإلغاء رخصة النفط المحلية لشركة “دلتا كريسنت إنيرجي”، ووعدتها بالتأني والتخطيط لانسحاب بلا عقابيل تزعزع مصداقية الولايات المتحدة الأميركية كالتي تسببت بها فوضى الانسحاب من افغانستان. لكنهم أخبروها أيضاً، وفق مصادر من داخل الإدارة، أن التزامهم ليس بلا أجل مسمى، وحدوده  تقف عند نهاية سنة 2022، وخلال هذه المهلة على الأكراد أن يتدبروا أمرهم مع الروس، الذين أعلنوا صراحة جهوزيتهم للتوسط بين الأكراد وأنقرة، وبطبيعة الحال مع نظام الأسد.

تريد واشنطن أيضاً أن تقايض انسحابها على تنازلات بالحد الأدنى للمعارضة السورية الرسمية، من خلال ضغط موسكو على نظام الأسد. ولعل ما حصل في الجولة السادسة من مداولات اللجنة الدستورية هو إحدى نتائج مساومات أميركية روسية فاشلة في الكواليس، إذا انهارت المفاوضات على حين غرة، وأسقط في يد مبعوث الأمم المتحدة المتفائل، وتوقفت المحادثات من دون سبب وجيه، عقب وصول الموفد الأميركي إلى سوريا ولقائه بموفد الرئيس الروسي. كان واضحاً أنه لم تتم تلبية أدنى المتطلبات الأميركية، فكل ما فعله الروس هو جلب وفد النظام إلى جنيف ليكرر الأسطوانة ذاتها، مضيفاً إليها نغمة جديدة، هي اعتبار كل دعوة انفصالية أو شبه انفصالية خيانة، في إشارة صريحة إلى مصير الأكراد فيما لو انسحب الأميركان.

الروس الذين يعرفون كل ما سبق، يحضرون “البازار” ببرود، ويطلبون ثمناً باهظاً لأمن الأكراد: استسلام متدرج يشبه ما حدث في حوران، يبدأ بانضمام “قسد” إلى الفيلق الخامس، ويمرّ بمنازعات يستقوي فيها النظام بالعشائر العربية الناقمة على السلطة الكردية،  وتهديدات تركية متواصلة، وصولاً إلى التفكيك الكامل، لكن ليس قبل أن تنتزع موسكو  شيئاً من أنقرة، فالأخيرة تسيطر على مناطق شاسعة في شمال وغرب سوريا، وهي قد ترفع يدها عن إدلب فيما إذا انتهى الكيان الكردي تماماً، لكن ذلك لن يشمل عفرين وجوارها التي منحتها أنقرة لمقاتلين موالين لها، فمن المتوقع أن تثبت نفوذها هناك، وأن تمنع الأكراد من العودة إليها بشكل مطلق، ويكاد يلوح منذ الآن في الأفق تحول عفرين وتل أبيض ورأس العين، إلى منطقة حدودية متنازع عليها بين أي دولة سورية مستقبلية والدولة التركية.

التنازلات التي تطلبها روسيا من الأكراد مُرّة، والخيارات البديلة أمرّ، وتحت الضغوط المتعددة انقسمت القيادة الكردية في شرق الفرات إلى ثلاثة تيارات: تيار يميل إلى التشبث بالأميركان، وآخر يرى أن الروس أكثر موثوقية وأن الملف السوري آيل إليها بتفويض أميركي، وثالث قنديلي يعتقد بأن الأكراد يستطيعون الصمود بمفردهم، وأن لا صديق حقيقياً لهم سوى الجبال!

في حادثة ذات دلالة، قرر الروس، الأسبوع الفائت، اختراق منطقة القبائل العربية في دير الزور، والتي تسيطر عليها “قسد”، برتل عسكري يتجه إلى شمال الرقة التي يعتقد أن تركيا قد تهاجمها في أي لحظة. مرر الجناح الأميركي في “قسد”، لعرب مناهضين لنظام الأسد وحلفائه، توقيت وخط سير الرتل، وأوحوا لهم أنه سيكون من الجيد اعتراضه، فتصدى للرتل العشرات من السكان وأجبروه على التراجع. لكن، في صباح اليوم التالي، عاد الرتل محروساً بقوة كبيرة من الجناح الميال للروس في “قسد”، وشق طريقه أيضاً بحماية حوامتين روسيتين حلقتا في المنطقة الواقعة تحت نفوذ التحالف الدولي  وفق الإطار التنسيقي العسكري، والتي يحظر على الروس التحليق فيها.

في ما يمكن أن يبصره المرء وراء هذه المعطيات، يبدو أن لا مفر للجناح الكردي الأميركي من تقبل الحقيقة، والإقرار بأن الانسحاب الأميركي واقع لا محالة؛ وأما الجناح القنديلي المعتد بصداقة الجبال، فهو سيعرف بالحسنى أو بخلافها أن شرق سوريا منطقة سهلية بالمطلق ولا جبال فيها؛ وحده الجناح الروسي في “قسد” سيمضي أبعد من ذلك، وسيقطع شوطين أو ثلاثة ليجد نفسه مجدداً في “سوريا الأسد”، جنباً إلى جنب مع فئات أخرى من السوريين، الذين لم يتمكنوا بوعيهم الذاتي من إيجاد مكان آخر يجتمعون على صعيده لمواجهة جلادهم المشترك، والذي أعادوا انتاجه بأيديهم، وأعادوا إنتاج أنفسهم مجدداً كضحايا تزدري ويحارب بعضها البعض.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا