الانقلاب على ماهر الأسد

في اللقاء الأخير الذي أجرته وكالة روسيا سيغودنيا مع بشار الأسد، يسأله الصحافي عن “بطولات” الروس في سوريا التي يحتفظ بها في وجدانه، وأيّ منها يعتبرها جديرة بأن يرويها لأحفاده. يستخدم بشار الصيغة نفسها، فيسرد ما سيقوله لأحفاده يوماً، ولعله استخدمها وهو مطمئن إلى الزمن المقبل أكثر من أوقات مضت، الاطمئنان الذي يجعله يعِد بالكشف عن ترشيحه للرئاسة لاحقاً، وكذلك يجعله يصرّح بأن مفاوضات جنيف-اللجنة الدستورية “هي عبارة عن لعبة سياسية”.

لا ندري كيف تخيّل بشار شيخوخته المفترضة، وهو يسرد لأحفاده ذكرياته عن السنوات الأخيرة. من المؤكد أنه تخيّل ما يخالف تماماً رغبات سوريين كثر، يتمنون رؤيته خلف القضبان يُحاكَم على الجرائم ذاتها التي سيرويها لأحفاده كانتصارات. ولئن ارتبطت الصورة الشائعة في الأذهان برجل مسنّ متقاعد، يروي لأحفاده زمناً لا يعرفونه لاختلافه عن زمنهم الجديد، فلا ندري إن كان بشار يتخيّل نفسه متقاعداً. وكي لا تذهب الظنون بعيداً؛ لا ندري ما إذا كان يتخيل نفسه متقاعداً لصالح توريث ابنه، أم أن فكرة التخلي عن كرسي السلطة لا تراود هذا النوع حتى إذا كان التوريث للأقرب الذي يجسد الاستمرارية المأمولة.

إذاً، مسنوداً بنشوة النصر، يستطيع تخيّل نفسه كرئيس يجالس أحفاده أحياناً، أو يستطيع “إذا انتابته لحظات قصوى من الغيرية” تخيل نفسه مجالساً لأحفادٍ بعضٌ منهم أولاد ابنه المنشغل بمنصب الرئاسة. وكما نرى، هذه الصورة الوردية لا تتسع لمنافسين محتملين، لا تتسع تحديداً لشقيقه ماهر وأبنائه، فما صار في منزلة البديهيات أن الأسدية إما تستمر عبر بشار وابنه من بعده أو تنتهي عنده. بفضل معطيات مؤثرة عديدة، لم يحقق بشار النصر ضد المعارضة فقط، بل حقق النصر ضمن الأسدية ذاتها، ولا يندر في هذا النوع من المواجهات أن تغطي المعارك الخارجية على معارك داخلية لها ما لها من الأهمية والتأثير.

بالعودة إلى لحظة اندلاع الثورة، كان الموالون المطالبون بسحقها يُنذرون الثائرين بأن ماهر الأسد “لم يشلح البيجاما” ليرتدي بذته العسكري ويستخدم ما هو معروف عنه من بطش. غلاة الموالين رفعوا الشعار الغاضب من بشار، والمنتقص من كفاءته الوحشية: ماهر إلى القيادة وبشار إلى العيادة. رداً على هؤلاء وأولئك، خرج بشار بعد نحو ثلاثة أشهر من اندلاع الثورة واستخدام العنف المفرط تجاهها ليعلن مسؤوليته الشخصية عما يحدث، وليسخر من الذين ردّوا استخدام العنف إلى قرار من ماهر، سواء فعلوا ذلك للإعلاء من شأنه أو لتبرئة بشار من المسؤولية. ذلك الإعلان، في خطاب منقول تلفزيونياً، يصلح كقرينة تدينه في أية محاكمة، إلا أن ما كان ملحاً آنذاك طمأنة غلاة الموالين إلى أنه يقوم على أكمل وجه بما ينتظرونه من ماهر، وكان ضرورياً التلميح إلى أن مواجهة الأخوين “حافظ ورفعت” بعد انتهاء المواجهة مع الإخوان لن تُستعاد بمواجهة مماثلة، وإذا كان لا بد من المقارنة فها هو بشار وقد استفاد من الدرس من أجل تحاشيه.

طيلة السنوات التي انقضت منذ اندلاع الثورة، بقيت ماكينة ماهر الأسد “الفرقة الرابعة” تعمل على مستويين، الأول قمع المظاهرات ثم الحرب على المناطق الثائرة، والثاني تجارة الحرب من خلال السيطرة على طرق مهمة للحركة الاقتصادية والسيطرة على بعض منافذ التهريب على الحدود اللبنانية. هي صورة متواضعة لأمير حرب، تعطيه قرابته من بشار ميزات تفضيلية على أمراء الحرب الآخرين، من دون اقترانها بآفاق أو طموحات سياسية. حتى ما يُشاع أحياناً عن رعاية ماهر من قبل طهران يُفهم كرسالة لبشار ولموسكو، رسالة لا تتجاوز ضبط التوازن بين الطرفين إلى تبنيه كمرشح إيراني بديل عن أخيه.

وإذا كان تصريح بشار عام 2011 يوحي باستفراده بالقرار، من دون أن ينقل الواقع بأمانة، فإن الواقع سيصبح مطابقاً له عبر محطات أقصت الشركاء العائليين. في تموز 2012 كان آصف شوكت، زوج شقيقته بشرى، أبرز ضحايا التفجير الذي عُرف بتفجير خلية الأزمة. بحسب ما يتداوله السوريون منذ ما قبل الثورة، ينبغي أن يكون شوكت قد رحل وفي جسده أثر رصاص أطلقه عليه ماهر عندما كان يحتج على زواجه من أخته، وقيل آنذاك أن الرصاص أُطلق بمباركة من الشقيق الأكبر باسل. بحسب ما هو شائع أيضاً، كان لشوكت حظوة عند الوالدة أنيسة مخلوف، رغم كل ما أشيع عن اتصالاته الغربية “الفرنسية خاصة” بعد اغتيال الحريري، واعتباره مرشحاً مقبولاً كبديل عن بشار، وفي المحصلة يُفترض بمقتله أن يصب في مصلحة الأخوين بشار وماهر.

ربما كان التدخل العسكري الروسي عام 2015 ضربة كبرى لاحتمالات صعود ماهر، لكن الضربة ستكتسب قوة إضافية بعد خمسة أشهر مع وفاة الأم أنيسة مخلوف. بوفاة أنيسة انفضت الحلقة العائلية الضيقة لصنع القرار، فلم يعد هناك مَن يدعم وجود الخال محمد مخلوف فيها وصار في وسع بشار الاستغناء عنه نهائياً، وصار في وسعه تالياً تهميش ماهر أكثر من قبل. كما نعلم شهدت الفترة ذاتها الاستعجال في إبراز حافظ بشار الأسد كوريث منتظر، وبصرف النظر عن إمكانية تحقيق هذا “الحلم” فإنه موجه في المقام الأول ضد أي طموح قد يراود عمه ماهر، أي أن الرسالة عائلية وقد يتسع نطاقها إلى حلقة أنصار الأخير وربما ما تبقى من أنصار للمقصي الأول العم رفعت. يُذكر أن حافظ الأسد لم يدفع بابنه باسل إلى الواجهة إلا بعد النزاع مع رفعت، لإزالة أي التباس حول موضوع التوريث.

انقلب بشار على أخيه، بدايةً بإظهار وتبني الوحشية المنتظرة منه عندما “يشلح البيجاما”؛ لقد تفادى مبكراً الصورة التي كانت رائجة عن الأخوين حافظ ورفعت، والتي تمنح الأول السياسة والحنكة وتترك للثاني البطش والتهور، فهو “وفق ذلك المخيال” حافظ ورفعت معاً، ووفق النسخة الأحدث هو بشار وماهر معاً. إنه نصر لا يقل أهمية عن الانتصارات الأخرى التي يُحتفل بها بعد مرور خمس سنوات على التدخل الروسي، فهذا النوع من الاستحواذ على السلطة والاحتفاظ بها لا يستثني أقرب الطامحين المحتملين.

إذا أسعفت الظروف بشار الأسد بالبقاء وسرد ذكرياته لأحفاده، لن يكون منشغلاً باسترجاع “الانتصارات الروسية”، فالأهم هي “انتصاراته” الشخصية. ذلك الطبيب في مستشفى تشرين العسكري، الذي كان يقيم أياماً مفضّلاً البقاء فيه على قصر بات يتحكم به الشقيق الأكبر بمساعدة من الشقيق الأصغر، بل كان يتهرب من الحراسة المخصصة له في المستشفى، مظهراً إياه تعففاً عن السلطة أمام العموم، وهامساً لمقرّبين بأن أفرادها جواسيس عليه للأخ الأكبر. إذا أسعفه الحظ، كما حدث حتى الآن، فسيكون الباقي الوحيد من الأسرة القادر على أن يروي ما يشاء كما يشاء.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا