التطبيع جسر حافظ بشار الأسد إلى السلطة

لم يعد التطبيع بين بشار الأسد وإسرائيل مجرّد تكهنات. لقد بدأ يتضح أنه يتم ضمن مسار صممّته روسيا، وأنجز مرحلته الاستكشافية في لقاءين في قبرص وقاعدة حميميم في اللاذقية، وكانت قد سبقته رسائل نقلها الروس من الأسد إلى حكومة نتنياهو، يخبر فيها الإسرائيليين أن بالإمكان إطلاق مفاوضات سلام معهم، إن كانوا راغبين ومستعدين.

كان من الطبيعي أن تنفي وزارة خارجية الأسد حصول هذه اللقاءات، ويمكن الجزم بأنها صادقة في نفيها، لأن مثل هذه الأمور لا يمكن أن تمرّ عليها، ما دام جهاز الأمن، عبر علي مملوك، هو من يتولّى الأمر، ولأن هذه المفاوضات لا تحتاج مفاوضين محترفين من وزارة الخارجية ولا خرائط لإثبات الحدود ولا قانونيين لصياغة الاتفاقات، هذه الأمور باتت خلف إسرائيل والأسد نفسه.

ما يريده الطرفان صفقة ساخنة، لا تنفع معها أطقم المفاوضات الرسمية، ولا تحتوي على سجالات ومماحكات وتفنيد للروايات، صفقة تشبه ما فعلته حكومة السودان، القبول بالتطبيع، من دون أي شروط مسبقة، مقابل فتح الأبواب المغلقة أمام الأسد، إذ بات هذا مقتنعاً أن الدول الغربية ربما تورّطت في الذهاب بعيداً في مسألة العقوبات ضده، وباتت أبوابها موصدة بأقفالٍ لن تكون مفاتيحها على شاكلة التكتيكات السابقة، من نوع التعاون الاستخباراتي، والتهديد بزعزعة استقرار لبنان، والمطلوب هو صدمة بحجم التطبيع مع إسرائيل، تُسقط جدار العزلة المضروب على نظام الأسد.

يعتقد الأسد، المبهور بذكائه الاستراتيجي، وقدراته الهائلة على التقاط الظرف الدولي وفهم توجهاته، أن الفرصة مواتية للإقدام على هذه الخطة، فإدارة بايدن، المتخبّطة حتى اللحظة، ستجد في مبادرة الأسد، التطبيع مع إسرائيل، منقذاً لها من تخبّطها، فهذه الإدارة الواقعة بين إخلاصها لسياسات إدارة أوباما، إلى درجة أنها لا تستطيع اجتراح سياسة سورية مختلفة عن سياسته، وما خلفه ترامب من وقائع على الأرض، ستجد نفسها ممتنّة للأسد على خطوته الذكية، ثم إنه ما دامت إسرائيل قد قبلت بإجراء صفقة مع الأسد فلا كلام بعد كلامها.

ويراهن الأسد على أن دول العالم ستبارك الصفقة، ومعها، ستفتح خزائنها لإنقاذ اقتصاده وإعمار كل حجر دمّره، وسيمحو العالم، بدوله ومنظماته، كل ما سُجّل من وقائع بطشه وجنونه، وسيتجاوز مطالبه بمرحلةٍ انتقاليةٍ ودستور جديد ومحاكمة لمجرمي الحرب، مقابل ذلك سيتركون له المجال لصياغة مخارج مناسبة، ربما تتضمن إعداد رواياتٍ جديدة عما حصل وكيف.

لا يحتاج الأسد سوى ولايتين دستوريتين جديدتين، 14 عاماً لن تكون كثيرة على المجتمع الدولي، بل إن هذا المجتمع هو من يُفترض به أن يبادر إلى طلب هذه المهلة لبشار الأسد، فحماية إسرائيل من عشرات مجاميع المتطرّفين، سنة وشيعة لا فرق، تتطلب مثل هذه المساحة الزمنية، كما أن إسرائيل نفسها لم تشبع من خمسين عاماً من خدمات العائلة الأسدية، وتطمح إلى مثلها ما دامت الإمكانية متوفرة. حافظ بشار الأسد على أعتاب الحكم، تفصله عنه فقط ولايات أبيه، وثلاث أو أربع ترقيات عسكرية لضمان حصوله على رتبة فريق أول.

قد يقول أحدهم إن بشار الأسد المأزوم، والباحث عن صفقة ساخنة وحلول سريعة، لا يملك ترف التفكير بتوريث ابنه في هذه اللحظة، ومن يبحث عن طحينٍ ووقود، لتسيير شؤون يومياته، لا طاقة له في التفكير باستحقاقات تفصلنا عنها سنوات مديدة؟ تختلف حسابات الأسد في ذلك، وطالما أن الأطراف الدولية والإقليمية قبلت بفتح البازار، فهذا يعني أن مطالب الأمس، بالتنحّي والمحاكمة، باتت من سفاسف الأمور. في الأصل، لا تحتاج هذه القضايا إلى مفاوضات، ولم يحصل في التاريخ أن تم التفاوض مع طرفٍ ما على محاسبته ومحاكمته، فالأسد يدرك أنه لن يدخل المفاوضات لينفذ شروطا ومطالب. كل ما هو مطلوب منه قبول التطبيع وإخراج مليشيات إيران من سورية، وعدا ذلك، فهو من سيتقدم بلائحة مطالب: الدعم الاقتصادي، رفع العقوبات، وربما عدم التدخل في الشأن السوري مستقبلاً.

كيف سيحلّ الأسد المشكلة مع إيران؟ إذ يعتقد بعضهم أن إيران التي استثمرت في الحرب السورية مبالغ طائلة وقدّمت أرواحا كثيرة، ربما تُقدم على اغتيال الأسد إذا فكّر بإخراج مليشياتها من سورية. ولكن في المقابل، لماذا لا نطرح السؤال: هل تمانع إيران في دوام حكم الأسد إلى الأبد إذا كان التطبيع سيحقق هذا؟ وهل تمانع إذا أعاد لها الأسد عشرات مليارات الدولارات التي صرفتها في الحرب، ما دام أن هناك أطرافا دولية مستعدة لدفع هذه المبالغ مقابل إخراج مليشيات إيران من سورية؟

السؤال الأهم، أليست إيران بحاجة إلى مثل هذا المخرج الآن؟ ما الذي تفعله مليشياتها في سورية سوى تلقي الضربة تلو الأخرى. ثم إن إيران أنجزت مشروعها في سورية، حققت أقصى قدر ممكن من التهجير والتغيير الديمغرافي، وقتلت وشرّدت جيلاً كاملاً، وأصبحت موجودة في مفاصل الاقتصاد والأمن ومجلس الشعب، وما دامت المطالب تقتصر على خروج مليشياتها وحسب، فالأمر ليس إشكاليا، خصوصا أن إدارة بايدن عائدة إلى التفاوض معها.

يوم مات حافظ الأسد، جاء العالم كله يبارك تسليم بشار السلطة، النخب الحاكمة التي فعلت ذلك ما زالت موجودة هي نفسها في السلطة، ما المانع أن تبارك غداً توريث حافظ بشار الأسد؟

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا