الجائحة التي عرّت الوجه القبيح للعالم المتقدم وكشفت أنانية «الديمقراطيات»

الصينيون عبّروا أكثر من مرة عن أن تطورهم الاقتصادي مختلف عن النموذج الغربي، فهم اتبعوا سبل التنمية والإنتاج والمنفعة المتبادلة مع دول العالم، في حين بنَت الدول الغربية تفوقها التقني وتقدمها الاقتصادي على قاعدة التوسع الإمبريالي، والحروب العدائية، ووضع اليد على مقدرات الشعوب، وسرقة ثرواتها. وبالتالي نحن أمام نموذجين مختلفين تماما، الأمر الذي يرجح استبعاد قيام حرب عسكرية مباشرة بين المعسكر الغربي الإمبريالي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، والمعسكر الشرقي، الذي تعرف دوله نموا متسارعا وفي مقدمتها جمهورية الصين الشعبية.
والمسألة قد ترتبط مستقبلا بالقدرة على تماسك الأحلاف والتكتلات الجيوستراتيجية، ونجاح سياسات الجمع بين الإصلاحات الداخلية وفاعلية «الاستراتيجيات الذكية»، لتحويل الموارد إلى قوة خارجية منفتحة، خالية من غرور الاحتفاظ بالهيمنة، وجرّ العلاقات الدولية إلى قنوات غير دبلوماسية.
وتأتي تطورات الجائحة العالمية، لتكشف أخلاقيات زائفة، كثيرا ما ادعتها دول ديمقراطية على غرار تصريحات الإدارة الأمريكية التي اتهمت فيها الصين بنشر الفيروس، وتعمد ترامب ووزير خارجيته بومبيو نعته بالفيروس الصيني، وينسى هؤلاء أن أحدا لم يتجرأ على وصف وباء أنفلونزا الخنازير، الذي ظهر في أمريكا والمكسيك مطلع هذا القرن بالفيروس الأمريكي مثلا. وعوض البحث عن حلول جماعية جادة لمواجهة هذا الخطر، يتم توظيفه سياسيا بتصريحات متبادلة، تُفاقم حدة الصراع، وتُراكم الحسابات الجيوسياسية بمنطق الغرور والذاتية.
وفي السياق ذاته يمر الاتحاد الأوروبي بتحد غير مسبوق في تاريخه من جهة مبادئ التضامن والتعاون المشترك لمنطقة شنغن، وقد عبّر الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش عن خيبة أمله، بعد عزوف الاتحاد عن مساعدة بلاده في مواجهة وباء كورونا، واعتبر التضامن في الاتحاد الأوروبي «قصة خرافية على الورق وأملنا الوحيد في الصين». وهو الامتعاض ذاته الذي لمّح إليه رئيس الوزراء الإيطالي، في إشارة إلى الخيبة الكبرى من حلفاء الرأسمالية، واتضح أن هذا الاتحاد لم يستطع إيجاد مقاربة تضامنية شاملة بين دوله، واكتفت كل دولة بحلولها الذاتية، بضمانات ضعيفة ونسبية لطوق النجاة، وتخفيف الأضرار، وهو ما لم يكن متوقعا في لحظات المحن الكبرى.
ويزداد الأمر تعقيدا إثر عمليات القرصنة والسرقة العلنية، التي تقوم بها الدول والحكومات، وتسطو فيها على المعدات الطبية والتجهيزات المتجهة إلى دول أكثر تضررا من كوفيد 19. وهي سلوكيات تعري أباطرة النظام الدولي وتكشف الجشع الرأسمالي، الذي تتقلص فيه الاعتبارات الإنسانية إلى أبعد حدود، على نحو تحذير كندا واشنطن من تقييد التجارة الدولية في السلع والمعدات الطبية. في الوقت الذي تُزايد فيه الولايات المتحدة على شحنات متجهة إلى دول أوروبية، وتقوم بشرائها من على مدرجات المطارات الصينية، قبل إقلاع الطائرات لتسليمها. وبعد تحويل مسار شحنة من الأقنعة الموجهة لألمانيا اتهمت برلين واشنطن «بالقرصنة الحديثة»، وانتقد مسؤولون ألمان وكنديون بشدة عدم امتثال أمريكا لقواعد التجارة الدولية، واتباعها طرق «الغرب المتوحش»، وهو السلوك نفسه الذي قامت به إيطاليا باستيلائها على باخرة محملة بالكحول الطبية، كانت متجهة إلى تونس، وقيام التشيك بافتكاك لوازم طبية في طريقها إلى روما، واتهامات لفرنسا بمصادرة معدات طبية موجهة لإسبانيا وإيطاليا، واحتجاز تركيا لطائرة محملة بأجهزة تنفس في طريقها من الصين إلى إسبانيا، حسبما أعلنته وزارة الخارجية الإسبانية. ومن المرجح أن تتواصل عمليات السلب والسرقة الدولية مع اشتداد الأزمة، وتفاقم حالة الهوس والهستيريا التي أصابت الحكومات والأفراد على حد سواء، بالتوازي مع ارتباك المنظومات الصحية لدى دول متعددة.
وهو ما يطرح تساؤلات كبرى بشأن حقيقة النظام العالمي، الذي اتضح فعلا بأنه قرصنة منظمة زمن السلم، كما في زمن الحرب ومواجهة الأوبئة، خاصة حين ينعدم التعاون الدولي، وتختفي الاستراتيجيات العالمية المشتركة، وتصمت الهيئات الأممية، أو تكتفي بإصدار البيانات ومتابعة معدل انتشار الوباء، وتعداد الموتى، ويغيب مجلس الأمن الذي تعود على عقد جلسات سريعة، لتشريع حرب أو إدانة دولة. وفي الأثناء تغالب كل دولة مصيرها بنفسها وفق طرق تقليدية، منغلقة على ذاتها، بشكل يفضح عورات النظام الأممي وعولمته المتوحشة.

الاعتداء على كوكب الأرض، واستباحة مقدراته البيئية والمناخية، حالة عدوانية، مردها إلى النزعة الانتقامية في الحضارة المعاصرة، ولا يمكن أن نقتصر أسباب فيروس كورونا على مدينة ووهان وأكل الأسماك والحيوانات البرية، بل من المؤكد أن المسألة تتجاوز ذلك بكثير، وإن بدا الأمر غير جلي تماما في هذه المرحلة، التي ينشغل فيها الجميع بمواجهة عدو خفي، ولو قيل بأن مصدره الطبيعة، فإننا بتعبير ميشيل سير قد أصبحنا بحُكم تحكمنا المفرط في الطبيعة «ضعفاء أمامها»، حتى إنها تهددنا هي بدورها لتسيطر علينا. فمن خلالها ومعها وداخلها نقتسم القدر نفسه. وأكثر من كوننا نملكها ستملكنا هي بدورها كما في القديم، عندما كنا نخضع للضرورات الطبيعية، لكن مع فارق نوعي، في الماضي كان الخضوع محلياً، أما اليوم فسيكون عالمياً. لماذا ينبغي لنا منذ الآن البحث عن التحكم في تحكمنا؟ لأن تحكمنا لم يعد منضبطاً ولا مقنناً ويتجاوز هدفه، بل أصبح ضد الإنتاج. «لقد انقلب التحكم الخالص على نفسه».
وعلى خلفية الديناميكيات السياسية التي يمر بها العالم من دون انقطاع، منذ أواخر القرن الثامن عشر، لم يعد في وسع «نُظم الهيمنة» أن تعمر طويلا، وصار لزاما عليها أن تختار بين أن تقضي على نفسها في حروب يُحرق فيها الأخضر واليابس، أو أن تعمل على تخفيف عمق العلاقات التنافسية الشرسة من خلال تطوير هياكل سياسية وتشابكات اقتصادية، تجمع شمل البلدان المعنية تحت سقف واحد لكي تتجاوز الأزمة الحالية وتداعياتها المستقبلية.


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا