الرمال السورية

توفي أربعة سوريين بينهم طبيب، إضافة إلى شاب لبناني، في أحد الآبار بمدينة طرابلس اللبنانية. وفي التفاصيل، وبحسب الروايات المتداولة: في أثناء قيام شابين بتنظيف البئر، على عمق نحو عشرين مترًا، انفجرت المياه وسقطا داخله، ليحضر بعدها ثلاثة آخرون لإنقاذهم، فسقطوا أيضًا داخل البئر، واستمرت عمليات الإنقاذ لساعات، وكانت الفاجعة بإخراج الخمسة جثثًا هامدة. وفي تعليل سبب الوفاة قيل إن المياه جرفتهم فغرقوا، وقيل اختناقًا بسبب نقص الأوكسجين، وقيل أيضًا إن الأرض الرملية للبئر سحبتهم. وأضافت المصادر أن أحد السوريين المتوفين طبيب سوري يدعى “عبد الواحد شمس الدين باشا”، وعُرف من بينهم أيضًا الشاب محمود عبد العليم من حمص، إضافة إلى عيد خالد عيد وعبد الرحمن مصطفى الخالد من إدلب.

منذ زمن أصبحت المأساة عنوان حياة السوريين، تلتهمهم يوميًا بطرق شتى، قصفًا وقنصًا وحرقًا وغرقًا وتسميمًا وتعذيبًا وتجويعًا وتشريدًا وانتحارًا ويأسًا، إلى درجة أصبح الموت اعتياديًا، يستثيرنا بعض الوقت، ثم نتابع حياتنا بعدها في انتظار موتٍ جديد. وقد أثارتني حادثة البئر هذه، خصوصًا أنني أعرف الطبيب الذي كان زميلي في الجامعة، ولما لها من دلالة على أن قدر السوريين أصبح، منذ سنوات، الهروب من الموت إلى الموت.

على ما يبدو، لا فرق بين السوريين الذين سحبتهم تلك البئر وبقية السوريين؛ فنحن اليوم نعيش في بئر عميقة لا نعرف إلى أين ستسحبنا أو متى ستنجز ابتلاعنا النهائي، وطنًا ودولة وشعبًا. منذ سنوات ونحن نقف أو نتحرك على أرض رملية لا نستطيع فيها ثباتًا أو إنجازًا، وهي حالة مضادة تمامًا للحال السورية قبل عام 2011 عندما كانت سورية أرضًا صُلبة مسوّرة بالحديد والنار، لكن بشرها كانوا بلا ملامح، يعيشون أيامهم الرتيبة خائفين، من دون دهشة أو رغبة، فيما اليوم أصبحت سورية الأرض الأكثر رخاوة في العالم، القادرة على ابتلاع كل شيء، على الرغم من إيجابية ارتفاع أصوات السوريين بحثًا عن ملامحهم التي غيبها أو شوهها الاستبداد الطويل.

أصبح المعطى الرئيس في سورية هو أرضها الرملية؛ رمال تغور تحت أي ثِقْل فوقها، ويمكنها ابتلاع من يدوسها، تلك التي توافرت لها قدرة عجيبة على ابتلاع أي جهد أو مشروع أو دور لأبنائها، ما يكاد يجعل حصيلة الجهد السوري خلال السنوات الماضية صفرًا، بل أكثر من ذلك، إنها ابتلعت كثيرًا من مشروعات الدول وبرامجها وخططها؛ فعلى الرغم من تدخلها الكثيف، لا يمكن القول إن دولة ما استطاعت أن تحقق ما تريده أو تصبو إليه. بالعودة إلى الوراء، كانت كل الحلول المطروحة للوضع السوري حلولًا على رمال متحركة، ولم تمتلك مقومات الثبات والفاعلية، إن كانت قد صدرت عن الدول أو السوريين، وقد أُريد لها قصدًا ألا تكون فاعلة في محطات كثيرة.

ابتلعت الرمال السورية، طوال السنوات الماضية، عديدًا من الجماعات والفصائل والتنظيمات السياسية والمدنية، والتهمت جهد كثير من السوريين، والدول أيضًا، في المجالات معظمها، ولم يبق اليوم إلا عدد من القوى الهشة المعتمدة في حياتها على الرضا والطاعة، إضافة إلى فصائل ممزقة منتشرة في بعض المناطق، تنتظر موتها هي الأخرى، كونها مثل غيرها لا تملك أي عنصر من عناصر البقاء أو الحياة.

لا تملك القوى والمشروعات السورية، في الداخل والخارج، استراتيجية البقاء، فمعظمها موقَّت، ولديه القابلية للموت في أي لحظة، خصوصًا عند حدوث تغيرات كبيرة أو نوعية في الواقع، وهذه حال أصبحت، منذ مدة، لا تبعث على الثقة، وتأخذ كثيرًا من السوريين بعيدًا من بلدهم وهمومه بحثًا عن طوق نجاة. ومع غياب أفق الخلاص الوطني، تسيطر بالضرورة فوضى قاتلة؛ قوى ومجموعات عمل، فيزيائية وافتراضية، لا تلبث أن تتشكل حتى تتحلل يأسًا أو خلافًا، اصطفافات سياسية متبدلة دائمًا، تكتيكات غير مجدية، نخب ثقافية وسياسية منقسمة على نفسها بطريقة تشبه عمل الميليشيات، تصاعد الأوهام بالإمارات والكانتونات والدويلات والمحاصصات، عداوات شخصية وطائفية وإثنية، رغبة مسيطرة في تحطيم كل شيء، تمزقات في الهوية أكثر من أن تحصى… إلخ.

أسباب هذه الحال عديدة، لكن يصعب تحديد الأساسي والثانوي بينها، بحكم اختلاط الأسباب بالنتائج. منها تدخلات الدول والممولين، العمل في بيئة غير البيئة السورية، سيطرة الحالة المادية على الخيارات أكثر كثيرًا من القناعات؛ فالوضع الاقتصادي يحكم الجميع، سياسيين ومثقفين وغيرهم، حتى لا نكاد نقف على رأي ثابت لأي فرد، ولا نستطيع معرفة موقفه الحقيقي من أي شيء. منظمات ومؤسسات تجري دراسات واستبانات سطحية على أوضاع متبدلة بسرعة، يشارك فيها سوريون من غير الممكن أن يستقروا على رأي بحكم عدم استقرارهم أساسًا، والأهم أنه لا توجد مؤسسة سياسية وطنية سورية تستفيد من استطلاعات الرأي تلك.

نحن اليوم أمام ركام من الأسئلة التي يطرحها الواقع السوري، ولا يوجد حولها توافق بين السوريين، أسئلة عصر النهضة في بدايات القرن العشرين كلها وُضعت من جديد على الطاولة السورية؛ الدين والدولة، الوطنية والعروبة، نظام الحكم، القوميات والإثنيات والطوائف، الإسلام والعلمانية…إلخ. يُضاف إليها أسئلة الواقع السياسي وتوازناته الإقليمية والدولية التي أصبحت تُطرح بعيدًا من الوطنية السورية، وتجري الإجابة عنها من واقع المصلحة الفئوية أو الإثنية أو الطائفية أو السياسية لهذا الطرف أو ذاك، ولم يعد ممكنًا تحقيق أي شكل من أشكال التوافق النسبي حول “العدو” و”الصديق” بين السوريين.

الرمال السورية المتحركة جعلت مسارَ التشظي المسارَ المهيمن، وهو مسار يختلف عن التقسيم على أساس إثني أو طائفي الذي لا أمل له فعليًا، سواء أكان دعاته من السوريين، أو من الدول التي ترعاه، بينما تتوافر للتشظي السوري البيئة الملائمة؛ انفجار البنية السياسية والاجتماعية السورية وتناثرها داخل سورية وفي محيطها إلى أمد غير معلوم، ومؤشرات هذا تظهر في نظام الحكم الذي بات كرسيه مرتكزًا على رمال متحركة، وفي فاعلية القوى المعارضة، السياسية والعسكرية، التي هي رهن الرمال المتحركة للدول التي تدعمها أو تستضيفها، وفي “السلام” الحاصل في بعض المناطق السورية، سلام على رمال متحركة، وفي وصول محاولات “التنمية المدنية” التي عمل عليها الأوروبيون والأميركيون والأتراك وغيرهم في دول الجوار السوري، إلى اللاشيء تقريبًا، ربما لأنها حصلت ولا تزال في الرمال المتحركة، فيما تحوَّل اللاجئون أنفسهم خارج سورية إلى رمال متحركة تجتاح العالم.

المسار الآخر، والوحيد، المقابل للتشظي هو الوطنية السورية؛ السياسة المتوافقة مع مسار التشظي هي سياسة سطحية وتكتيكات قصيرة النفس، وشطارة ولعب على الهامش وفي الكواليس، واستثمار في الشعبوية والغرائز والإثنيات والطوائف، ولا تصب في المآل إلا في طريق البناء على الرمال المتحركة.

ظاهريًا، وأول وهلة، مسار الوطنية السورية هو المسار الأضعف، وفي العمق هو المسار الأكثر شعبية إذا تجاوزنا سلطات الأمر الواقع والنخب الظاهرة بسياسييها ومثقفيها وزعاماتها الدينية والطائفية، وهو المسار الضامن لوطن حر وكريم، لكنه مسار طويل الأمد، ويحتاج إلى صناعة تبدأ من بقعة انطلاق صلبة؛ مركز سياسي وطني سوري ديمقراطي. لا قيمة لأي جهد حقًا في غياب هذا المركز، وهذه هي نقطة التفكير الأساس للخروج من الرمال السورية.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا