السفير التركي السابق عمر أونهون والقصة السورية

نشر السفير التركي السابق في دمشق عمر أونهون كتاباً بعنوان «سوريا بعيون السفير» جمع بين المذكرات السياسية والقراءة في الصراع السوري. قراءة شاملة قدر الإمكان، موضوعية قدر الإمكان، فيها الكثير من التفاصيل المعروفة وغير المعروفة.

فقد حظي أونهون بمراقبة الصراع السوري عن كثب، وعمل للتأثير فيه بقدر ما تسمح به مهمته الدبلوماسية، وبتوجيهات وزارة الخارجية التي يتبع لها، مقدماً لهذه الأخيرة رؤيته وتوصياته، بأسلوب رشيق وعين متعاطفة.

وبخلاف المهتمين القلائل بالصراع السوري، في الرأي العام التركي، ممن اختزلوا هذا الصراع إلى حرب «الحكومة الشرعية» على المنظمات الجهادية الإرهابية أو «مقاومتها» ضد التدخلات الخارجية، رأى أونهون أساس المشكلة في نظام يرفض تقديم أي تنازلات لشعبه ويواجه ثورته السلمية بالعنف المهول.

قدم أونهون قراءة موضوعية للصراع وأسبابه وتطوراته، مع تفاصيل غنية عن بداية الأحداث، وعن مراوغات النظام وألاعيبه في التظاهر بالاستجابة للمبادرات الدبلوماسية ومواصلة الرد العنيف على المظاهرات السلمية. ففي اللقاء المطول الذي جمع بين رأس النظام ووزير الخارجية التركي آنذاك أحمد داوود أوغلو، 9 آب 2011، في دمشق، على سبيل المثال، تعهد بشار الأسد بتنفيذ «خارطة الطريق» التي قدمها له الأخير للخروج من الأزمة، وكان أبرز بنودها: انسحاب قوات الجيش من حماة ودير الزور غداً، سفر السفير التركي إلى حماة للتأكد من التنفيذ وتقديم تقرير بشأنه، إصدار قانون للإعلام خلال بضعة أيام، ظهور الأسد على التلفزيون خلال فترة أقصاها عشرة أيام للإعلان عن خارطة طريق للحل السياسي بما في ذلك تحديد جدول زمني فيه موعد للانتخابات النيابية، إجراء استفتاء على المادة الثامنة من الدستور التي تنص على «قيادة حزب البعث للمجتمع والدولة، في غضون شهر واحد بعد ظهور بشار التلفزيوني، تغيير الدستور من قبل مجلس الشعب الجديد وتقديمه للاستفتاء الشعبي، السماح بعودة المعارضين السوريين من خارج البلاد وتمكينهم من تأسيس أحزاب سياسية لا تحمل أسماء إسلامية.

في اليوم التالي سافر أونهون إلى مدينة حماة، وفقاً للاتفاق، برفقة وفد من 8 أشخاص، وأمضوا فيها سبع ساعات، رافقهم في قسم من الوقت محافظ حماة، ثم تركهم يتجولون في شوارع المدينة وجوامعها، حيث التقوا بعدد كبير من الناس الذين تسابقوا في الحديث عما جرى ويجري في مدينتهم، وأعطاهم البعض فلاشات ذاكرة فيها توثيق بصري لبعض انتهاكات قوات النظام. «جميع الذين قابلناهم في شوارع حماة كانوا معارضين للنظام» كتب أونهون مستدركاً أنه «ربما يعود ذلك إلى عدم وجود مؤيدين في المناطق التي تسنى لنا التجول فيها، أو في حال وجود البعض فهم لن يجرؤوا على التعبير عن مواقفهم في وسط معارض» مؤكداً أن الشخص الوحيد المؤيد للنظام الذي قابلوه في حماه هو المحافظ عباس النعيم. «هل التزم النظام بتعهداته التي قطعها لوزير الخارجية داوود أوغلو؟» يتساءل أونهون، ويجيب: انسحب الجيش من حماة ودير الزور على الورق، لكنه تموضع في ثكنات قريبة خارج المدينتين، ويمكنه اقتحامهما بسرعة حين يشاء. زيارة السفير إلى حماة تمت بلا عوائق. قانون الإعلام الذي كان يفترض إصداره خلال بضعة أيام، أصدر في 28 آب. وظهر الأسد على التلفزيون في 22 آب. لم يجر الاستفتاء على المادة الثامنة من الدستور بعد شهر، كما كان الاتفاق. ولم يعد المعارضون من خارج البلاد.

يصف أونهون استجابات النظام للمبادرات السياسية بأنها كانت عموماً «متأخرة جداً وأدنى من التوقعات». بالمقابل كانت سياسة القمع ثابتة ومتصاعدة باطراد. فالنظام، في رأي السفير السابق، لم يفكر يوماً بتقديم أي تنازل جوهري للشعب، مكتفياً بصيغ لإصلاحات شكلية لا يمكنها أن ترضي تطلعات الشعب الثائر. الواقع أن «الخطة التركية» للحل السياسي كانت مستوحاة أساساً من التجربة التركية نفسها: نظام تعدد أحزاب، انتخابات حرة منتظمة، إعلام حر. كان داوود أوغلو يظن أن الأسد يمكن أن يتحول من دكتاتور إلى زعيم إصلاحي يقود عملية التحول بنفسه، مع إشراك المعارضة في السلطة.

ويتضح من البند الأخير من «خارطة الطريق» التي قدمها للأسد أن المعارضة الإسلامية (الإخوان المسلمون) هي المقصودة بالعودة من المنفى وتأسيس أحزاب «لا يتضمن اسمها مرجعية إسلامية» كحال التيار الإسلامي في تركيا. كل هذا، على أي حال، بات من الماضي البعيد. فتطورات الأحداث في سوريا ستمضي في مسارات أخرى ومراحل أخرى تغير هذا المشهد الأولي تماماً. فمن فشل مهمة الجامعة العربية إلى الفيتو الروسي ـ الصيني الذي أغلق أبواب مجلس الأمن أمام أي حل سياسي، إلى اجتماعات «أصدقاء الشعب السوري» إلى توتر العلاقات التركية ـ الأسدية، بما في ذلك الهجمات التي تعرضت لها السفارة في دمشق والقنصلية في حلب من قبل «مؤيدي النظام» إلى بعثة الأمم المتحدة بقيادة كوفي أنان، إلى بيان جنيف الأول في تموز 2012، إلى تفجير خلية إدارة الأزمة، إلى تحول الثورة من سلمية إلى مسلحة بشكل أساسي، إلى ظهور المنظمات الجهادية كجبهة النصرة ثم داعش، وصولاً إلى الهجوم الكيماوي في الغوطة، والتهديد الأمريكي، والصفقة الأمريكية ـ الروسية لسحب السلاح الكيماوي من النظام، ثم التدخل العسكري الروسي المباشر في أيلول 2015، وصدور قرار مجلس الأمن 2254، وتداعيات إسقاط تركيا للطائرة الروسية، سقوط حلب الشرقية وانطلاق مسار آستانا الثلاثي في مطلع 2017 وما تلا ذلك من تطورات… كل ذلك نقرأه في كتاب السفير السابق بالتفصيل، من موقعه كمراقب مباشر للأحداث، في الفترة الأولى، وكمشارك في جميع الاجتماعات التي كانت وزارة الخارجية التركية طرفاً فيها، ومن خلال التقارير التي كان يرسلها من دمشق إلى أنقرة. في آذار 2012، أغلق السفير أونهون باب السفارة في دمشق، وعاد إلى بلاده عن طريق لبنان. لكنه واصل اهتمامه بسوريا بعد تعيينه على رأس مكتب سوريا في وزارة الخارجية، وشارك في جميع الأعمال الدبلوماسية بشأن سوريا وصولاً إلى تقاعده العام الماضي. الفصول الأخيرة من الكتاب هي متابعة رصد للأحداث السورية بعد التقاعد أيضاً، وصولاً إلى مشكلة معبر باب الهوى التي سيصوت بشأنها مجلس الأمن في العاشر من شهر تموز الجاري.

يذكر أن القسم الأول من الكتاب يتحدث عن فترة تعيينه مستشاراً للسفير التركي في دمشق بين 1998 ـ 2000، حيث شهد موت حافظ الأسد وانتقال السلطة إلى ابنه بشار. ثم يغطي الفترة بين 2000- 2009 من مكتبه في الخارجية قبل تعيينه سفيراً في دمشق، تلك الفترة الذهبية في العلاقات السورية التركية.

المصدر القدس العربي


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا