السلطة والاستخبارات السورية

ما هي طبيعة العلاقة التي تجمع الأجهزة الأمنية فيما بينها؟ ومن هم المسؤولون عن وضع المخططات والاستراتيجيات والأساليب؟ وما هي الحدود الفاصلة بين ما هو منظم وما هو عشوائي؟

يحاول كتاب “السلطة والاستخبارات السورية” الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها من رواية تفاصيل العقد الأول من حكم بشار الأسد، بدءا من العلاقات اللبنانية السورية، مرورا بدور سوريا في حرب يوليو 2006، ووصولا إلى تحول الثورة السلمية إلى حرب أهلية.

لا يقدم المؤلف قراءة تحليلية للوضع في سوريا، فهذه ليست من مهامه، جل تركيزه ينحصر في متابعة المتغيرات الحاصلة في السلطة من عام 2000 إلى  عام 2010، لا سيما على مستوى توزيع السلطات في المؤسسات العسكرية والأمنية والحزبية والسياسية.

بناء التسلطية

يقسم المؤلف تاريخ الجمهورية السورية إلى ثلاث مراحل: الجمهورية الأولي تمتد من عام 1946 إلى 1958 (عام الوحدة السورية المصرية)، في حين امتدت الجمهورية الثانية من عام 1958 إلى 1963 (عام استلام البعث للسلطة)، أما الجمهورية الثالثة فتمتد من عام 1963 حتى الآن.

يعطي الدستور السوري الذي صدر عام 1973 صلاحيات واسعة لرئيس الجمهورية الذي يشغل أيضا منصب الأمين العام لحزب البعث الذي يعطيه الدستور في مادته الثامنة الحق في قيادة الدولة والمجتمع، إضافة إلى جمعه منصبي القائد العام للجيش والقوات المسلحة ورئاسة القيادة المركزية للجبهة الوطنية التقدمية.

إن إحدى السمات الرئيسية التي وسمت النظام السوري مع ولادة الجمهورية الثالثة وفق المؤلف هي تمركز السلطة في أيدي نخبة ذات أصول عسكرية ريفية، إلى أن استطاع حافظ الأسد تركيز السلطة بشكل هرمي حاد تلعب فيه البيروقراطية دورا حاسما في إلغاء الدور التنافسي التعددي.

ويتابع زيادة الحديث عن سياق الانتقال من التعددية إلى التسلطية، بالوقوف على الهجرة الكبيرة التي حدثت من الريف إلى المدينة، وما تبعها من انخراط في مؤسسات الدولة لا سيما الجيش الذي يتطلب مؤهلات تعليمية وعملية أقل، وكان من نتيجة ذلك أن ترييف المدينة أدى تدريجيا إلى ترييف السلطة، وهو ما قاد في النهاية إلى تحطيم التقاليد القانونية التي أرستها النخبة الحضرية التي استلمت السلطة بعد الاستقلال.

فمع تسلم البعث للسلطة كان واضحا صعود اللجنة العسكرية داخل جهاز الحزب، وحاول الأسد مع وصوله إلى السلطة توسيع قاعدة المساندة السياسية عبر بناء هياكل مؤسسية هدفها النهائي وفق المؤلف ترسيخ النظام الذي يكون فيه الأسد رأس الهرم، أما أضلاعه الثلاثة التي تنتهي إليه فهي: الإدارة الحكومية، الحزب، الجيش وأجهزة الأمن التي أصبح لها اليد الطولى على كافة المؤسسات.

وراثة سوريا من الأب إلى الابن

بدأ حافظ الأسد في عاميه الأخيرين ترتيب مسألة خلافته، فأصدر عام 1998 مرسوما أحيل بموجبه العماد حكمت الشهابي إلى التقاعد وتسلم نائبه العماد علي أصلان رئاسة هيئة الأركان، وهو من المقربين جدا لبشار الأسد، وجرى إنهاء خدمة اللواء بشير النجار من إدارة الاستخبارات العامة، وفي الوقت نفسه رقي أربعة ضباط من رتبة لواء إلى رتبة عماد، وهم: عبد الرحمن الصياد، علي حبيب، توفيق جلول، فاروق عيسى إبراهيم.

واستكمل الأسد تغييراته الأمنية بإحالة اللواء محمد ناصيف رئيس فرع الأمن الداخلي التابع لإدارة الاستخبارات العامة إلى التقاعد عام 1999، لكن جرى تعيينه فيما بعد معاونا لمدير إدارة الاستخبارات العامة اللواء علي حورية، وأحيل مدير إدارة الاستخبارات الجوية اللواء محمد الخولي إلى التقاعد عام 1999، كما أقصي العماد علي دوبا من رئاسة شعبة الاستخبارات العسكرية، وعين اللواء حسن خليل بدلا عنه، ثم تسلم اللواء آصف شوكت فرع أمن القوات في الاستخبارات العسكرية -الفرع الأكثر نفوذا في الشعبة- كما تمت ترقية بهجت سليمان من رتبة عميد إلى رتبة لواء وتسليمه فرع الأمن الداخلي.

استتبع الأسد عملية إقالة بارونات النظام بتغيير حكومة محمود الزعبي وتكليف محمد مصطفى ميرو رئاسة الحكومة عام 2000، مصحوبة بقرار الإفراج عن عدد من المعتقلين السياسيين، على أن الخطوة الأهم التي كان يجري الإعداد لها هي عقد المؤتمر القُطري التاسع في 17 يونيو/حزيران 2000 الذي توقع البعض أن يتسلم بشار الأسد منصبا في القيادة القُطرية لحزب البعث، لكن حافظ الأسد توفي قبل أسبوع من انعقاد المؤتمر.

في أثناء ذلك، بدأ بشار الأسد عام 1999 القيام بجولات رسمية وعلنية حظيت بتغطية إعلامية كبيرة من الصحافة الرسمية، دون أن يكون قد تبوأ أي منصب رسمي، وتسلم الملف اللبناني الذي سحب من يد عبد الحليم خدام.

وبموازاة هذه الترتيبات رقي الأسد إلى رتبة عقيد ركن، وجرى توجيه رسالة واضحة إلى منافسه عمه رفعت الأسد عن طريق إزالة ميناء له في طرطوس، والإعلان عن تقديمه للمحاكمة في حال عودته إلى سوريا.

فور وفاة حافظ الأسد أجرى وزير الدفاع العماد مصطفى طلاس الترتيبات اللازمة لانتقال السلطة، ولعب اللواء آصف شوكت دورا هاما لتأمين الدعم الكافي عسكريا، وكذلك المقدم ماهر الأسد في الفرقة الرابعة ذات المهمات الخاصة.

ترك بشار الأسد المؤسسات البيروقراطية على حالها مع تغييرات بسيطة، حيث أدخل إلى الجبهة الوطنية بعض الأحزاب الهامشية مثل الحزب السوري القومي الاجتماعي وحزب العمل الوطني والاتحاد الاشتراكي والاتحاد العربي الديمقراطي.

صعود المعارضة

الحديث عن المجتمع السوري: الدولة والسلطة السياسية، لا يستقيم دون الحديث عن المعارضة فيه، فالمجتمع السوري كقوة سياسية لم يكن خاليا من كل الأطياف السياسية.

وما إن حصل الجلاء حتى وبدأت القوى السياسية بمحاولة إثبات وجودها وفاعليتها السياسية عبر أدوات السلطة الديمقراطية في البرلمان والوزارات المتعاقبة، وكانت الأحزاب الليبرالية حاضرة بقوة في البداية، ولكنها سرعان ما بدأت تنسحب من الفاعلية السياسية وعجزت عن مواكبة المتغيرات وحاجات المجتمع السوري الجديد وعجزت عن تلبيتها، فبقيت سلطة مدنية واستمر الريف مهمشا وفقيرا، وهي بالأصل أحزاب نخبة لا بنية حزبية تنظيمية ومؤسسة على طريقة الأحزاب العقائدية لها، ولذلك سرعان ما انحسرت كأحزاب واستمرت كرموز ستنسحب من الصورة بشكل أولي مع الوحدة مع مصر 1958، وتنسحب بشكل نهائي من السياسة السورية بعد إسقاط الانفصال 1963.

تسلم البعث السلطة في سورية عبر انقلاب 1963، وعمل على فرض أجندته الكاملة في المجتمع كثورة، وعنى هذا اقصاء كل القوى السياسية الأخرى من الحكم وبأشكال مختلفة، ففي البداية من 1963 إلى 1970 مر الحكم بخلافات داخلية في البعث وتصفيات أدت أخيرا وصول حافظ الأسد للسلطة حاكما مطلقا لسورية.

لم تستسلم كثير من الأحزاب السياسية وسرعان ما توصلت بعد مراجعات فكرية لضرورة الحكم الديمقراطي بعدما ظهر من سيطرة حافظ الأسد وعصابته على الدولة والمجتمع.

لكن الأسد ثبت حكمه وزج بكثير من المعارضين بالسجون، وما أن حل عقد الثمانينيات حتى أزيحت حركة الإخوان المسلمين من المشهد السياسي، وكذلك أغلب كوادر الأحزاب المعارضة المرتبطة بـ “التجمع الوطني الديمقراطي” وخارجه ممن تتبنى الخيار الوطني الديمقراطي.

ولم يتغير الوضع السياسي في التسعينيات، فقد كان وجود المعارضة شبه معدوم، لكن مع وصول بشار الأسد إلى الحكم، تلقف المجتمع السوري والنشطاء السياسيين والمثقفين ورموز مجتمعه المدني الفرصة، وبدأت تعبيرات المجتمع المدني من خلال بيانات المثقفين.

يتساءل المؤلف هنا عن أسباب تسامح السلطات مع هذه النشاطات في البداية ثم الانقلاب عليها، ويذهب إلى أن الغاية الوحيدة من ذلك هي تمرير انتقال السلطة بشكل سلس وهادئ عبر إعطاء شرعية داخلية وخارجية لآلية انتقال السلطة.

بعد سنوات من اغتيال ربيع دمشق، بدأ المثقفون الناشطون التفكير بضرورة الانتقال من المعارضة المطلبية إلى شكل من أشكال العمل السياسي المنظم، فكان إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي الذي ضم شخصيات قومية ويسارية وليبرالية وكردية وآشورية وإسلامية، في أكتوبر / تشرين الأول عام 2005.

الإخوان المسلمون والديمقراطية

حاولت السلطة السيطرة بقوة على منصب مفتي الجمهورية، وبعد وفاة الشيخ أحمد كفتارو عينت أحمد حسون في المنصب كاسرة تقليدا يقضي باختيار مفتي البلاد من العائلات الدمشقية التقليدية، غير أن حسون فقد مصداقيته عند كثير من السوريين بسبب تملقه للنظام، كما فعل عندما وصف انتخاب الرئيس بشار الأسد بأنه بيعة شبيهة ببيعة الرسول.

ينحصر الحضور الديني في سوريا في شقين، تعليمي ودعوي، وكلاهما يخضعان لوزارة الأوقاف التي يجري تعيين وزيرها بدقة وعناية فائقتين، فبعد وفاة عبد المجيد الطرابلسي الذي كان سابقا أحد ناشطي الإخوان ومن زعمائهم الراديكاليين، جرى تعيين نمط من وزراء تكنوقراط أكثر من كونهم ذوي مرجعية دينية أو فقهية مؤثرة داخل المجتمع.

ومع ذلك اتسعت في سوريا خلال العقدين الأخيرين المدارس والمعاهد الشرعية، وعندما حاولت الحكومة تنظيم التعليم الشرعي عام 2006 عبر إجبار طلابه إكمال مرحلة التعليم الأساسي كشرط لدخول المعاهد الدينية، جرى احتجاج من قبل علماء الدين على هذه الخطوة، فوقع 39 منهم رسالة للأسد يتهمون وزارة التربية بوضع خطة تآمرية لتجفيف روافد الثانويات الشرعية، ولمح العلماء في الرسالة إلى الحوزات الشيعية التي تتجاهل تعليمات وزارة التربية بهذا الخصوص.

لقد أصبح الدين جزءا من إستراتيجية البعث لضمان بقائه في السلطة، وعلى الرغم من عدم وجود خطاب سياسي مواز يحاول استثمار الدين بشكل صريح كما حصل في أكثر من بلد عربي، فإن المواقف والتصريحات السياسية للأسد وبعض المسؤولين أصبحت تأخذ طابعا أيديولوجيا صريحا من استثمار المشاعر الدينية.

ويمكن القول والكلام للمؤلف إن هذا الخطاب أدى إلى عودة المظاهر الدينية بقوة إلى المجتمع السوري المغيب عن السياسة.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا