الطب السوري بين بشار الأسد وعلاء موسى

وعندما كان طبيباً مقيماً “في مرحلة التخصص” في مستشفى تشرين العسكري، قبل ذهابه إلى لندن لإكمال تخصصه، طرد مريضاً من المستشفى لأن ابن المريض “الطبيب المقيم هناك أيضاً” صفع زميلة له متهماً إياها بالتأخر عن تلبية نداء أبيه الخارج من غرفة العمليات. صفع الطبيب زميلته بسلطة أخيه ضابط المخابرات المعروف، لينال أباه المريض العقاب بالطرد من السلطة الأعلى. الحادثة التي يرويها لنا طبيب شاهدٌ عليها في تلك الحقبة لا صلة لها بحوادث أخرى ألمّت في ما بعد بعائلة المريض كمقتل واحد من أبنائه، ثم “انتحار” ابنه ضابط المخابرات الكبير ثم الوزير، فما يهمنا في هذا السياق هو التشديد على قيام طبيب بصفع زميلته، وقيام طبيب آخر بالانتقام لتلك الزميلة بطرد مريض خارج قبل ساعات من غرفة العمليات ليؤكد أنه السلطة الأعلى التي تصفع الجميع. 

الحادثة السابقة التي جرت في نهاية الثمانينات لا علاقة لها بمثول الطبيب علاء موسى اليوم أمام المحكمة العليا في فرانكفورت، في الجلسة الثانية من محاكمته، فصفع طبيبة وطرد مريض يحتاج إلى الرعاية هما بمثابة مزحة بالمقارنة مع التهم المنسوبة إليه. إلا أن تلك الحادثة المبكرة “في أيام السلم” تنذر بأن من يطرد مريضاً “لابن سلطة مدلل أيضاً” لن يتورع عن الإبادة، وهي تشرح كيف أن المستشفى نفسه جاهز لإكمال عمل فروع المخابرات عند الطلب.

وصفَ بشار الأسد الثائرين عليه بالجراثيم، وكان ذلك في مستهل الثورة. الطبيب علاء موسى في مراسلاته مع سفارة الأسد في برلين، قبل توقيفه من قبل الادعاء الألماني في حزيران2020، وصفهم بالصراصير. الجراثيم تستحق الإبادة، ومن المباح سحق الصراصير، وكانت حنه آرندت قد وضحت جيداً وهي تشرّح النازية كيف يعمل عقل الإبادة بدايةً على تنزيل قيمة الخصم إلى ما دون البشر، لتسهل إبادته ولتكون الأخيرة مقبولة على نطاق واسع. لعل هذا ما يفسّر أيضاً تمتع قتلة الإبادة براحة بال، وعيشهم حيوات اعتيادية بما في ذلك حيواتهم العاطفية وعلاقاتهم التي قد تزخر بالحب والحنان تجاه محيطهم القريب.

أداء المتهم علاء في الجلسة الأولى يعكس بالضبط العقليةَ التي تدفعه إلى وصم آخرين بالصراصير، فهو من دون أن يُسأل أسهب في الحديث عن مسيحيته، إذ بها يختلف عن “صراصير السُنّة”، ومن المرجح بشدة أن لا يراه اختلافاً بقدر ما يراه تفوقاً نوعياً. ثم إنه بمسيحيته ينتمي إلى غرب مسيحي متطور، لا يُقارن مع عموم الشرق المسلم المتخلف. حتى إنه اختار التحدث بالألمانية التي سبق له البدء في تعلمها منذ عام2009، أي أن انتماءه إلى الغرب المتطور سابق على الانتماء الاضطراري لأولئك المتخلفين الذين ساقتهم موجات اللجوء إلى البر الأوروبي الذي لا يستحقونه. إنه ليس منهم هناك في سوريا، وليس منهم هنا في ألمانيا.

التكتيك ذاته اتبعه بشار الأسد منذ بداية الثورة، فهو قدّم نفسه بوصفه الحداثي التقدمي العلماني الذي يواجه إرهابيين متخلفين. إنه بهذا المعنى ينتمي إلى الغرب المتقدم، بل بمثابة خط أول للدفاع عنه ضد الإرهاب السني. من نافل القول أن الإرهاب السني، بمعنى مغاير عما يقصده بشار الأسد وعلاء موسى، أدى واجبه كاملاً في استهداف الغرب وفي صناعة الإسلاموفوبيا، ورهاب الإسلام يظهر حالياً كاستثمار مفضّل لليمين المتطرف في العديد من البلدان الأوروبية. مع دعم الميليشيات الإيرانية ثم الطيران الروسي، نجح التكتيك الذي اتبعه بشار الأسد. لكن ما ينجح لتوافقه مع رغبات الساسة الغربيين ستكون مهمته شاقة جداً في مواجهة القضاء.

تفاصيل التهم المنسوبة إلى علاء موسى فظيعة إذا كان مرتكبها جلاد محترف، مثل سكب الكحول على عضو ذكري لمراهق وإشعال النار فيه وإعطاء حقنة مميتة..إلخ، والأمر يبدو للوهلة الأولى أفظع بكثير مع تذكر كون المتهم بها طبيباً، لتأتي مقارنته بزميله الطبيب بشار الأسد فتهوّن من الفظاعة بما هو أفظع منها. ثم، كما صار معتاداً في الحالة السورية، يأتي ذكرُ الدوافع الطائفية لتفسّر ارتكاب الجرائم والأهوال، فيُطرح التفسير الطائفي جامعاً ومانعاً لمزيد من التفكير.

من دون دحض الدوافع الأخرى، بما فيها الطائفية، يجسّد علاء موسى مآل نمط من الأطباء السوريين مع عقدة حرف الدال. من نافل القول أن الأطباء السوريين ليسوا جميعاً على هذه الشاكلة، وقد حمل نشطاء أمام محكمة فرانكفورت صور أطباء قدّموا مثلاً مغايراً تماماً لنموذج بشار وعلاء. المقصود بعقدة الدال أولئك الأطباء الذين كرّسوا جلّ اهتمامهم للحصول على لقب دكتور، ومع حيازته حملوا ذلك الشعور الفاضح بالتفوق الاجتماعي، ما يشمل تعاليهم على مرضاهم واعتبارهم مجرد أدوات لتعزيز ذلك التفوق.

لندع الرياء المتعلق بأولوية العامل الإنساني جانباً؛ لم يُنظر في سوريا إلى مهنة الطب كمهنة ذات غايات نبيلة بقدر ما هي مهنة مجزية مالياً واجتماعياً. التراتبية ذاتها موجودة في معدلات القبول الجامعي التي تضع الطب في الأعلى، بل وصلت إلى حد يُقارب العلامة التامة، بمعنى أن المقبول لدراسة الطب هو من ضمن “صفوة” ينقسم أفرادها بين المثابرة والذكاء الدراسي التامين. لا مكان للميول والرغبات في هذا السلم، إذ مَن الأحمق الذي يحصل على معدل يؤهله لدراسة الطب ويختار اختصاصاً آخر؟!

من المفهوم أن نسبة لا بأس بها من المثابرين للوصول إلى مقعد في كلية الطب تحتوي على مساكين عليهم التضحية بحيواتهم الاجتماعية، والتنسك بين كتبهم الدراسية لخوض سباق لا يرحم. هذا يسهّل عليهم لاحقاً النظر بفوقية إلى واقع لم ينغمسوا فيه على النحو الذي فعل زملاء لهم لم يدخلوا السباق، وهذه الفوقية قد لا توفر أحداً بدءاً من المجتمع العائلي الصغير الذي لا يندر أن يحتفي بإنجازه هذا الدكتورَ المتعالي عليه.

ما نُقل عن ظهور علاء موسى في الجلسة الأولى للمحكمة، ويُستخلص منه استعلاؤه وبذل جهده لإثبات تفوقه، ليس استعلاء طائفياً فحسب. أيضاً، التعالي الذي يُظهره بشار الأسد في كل إطلالة له لا يُرد فقط إلى وريث سلطة مطلقة، بل نستطيع أن نرى فيه أصالة تنبئ بشعور بالتفوق على محيطه القريب لا يُستبعد أن يكون قد اضطر لكبته حتى واتته فرصة الانفجار. هذا التعالي الأصيل، بالتساند مع الدوافع الأخرى، يجعل من مساهمة الطب السوري في الإبادة أوسع وأشمل وأكثر تطوعاً وابتكاراً مما حدث في تجارب فظيعة أخرى كأطباء النازية مثلاً. إنها مساهمة مَن تربوا طوال عقود على كون حرف الدال له مكانة فوق اجتماعية، مثلهم مثل من كان له امتياز الحصول على سيارة جديدة قبل التسعينات، نزولاً إلى من كان يستطيع شراء الموز!

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا