العملية القادمة في سورية والتوازنات الدولية

نشر هذ المقال باللغة التركية لأول مرة بتاريخ 11 تموز 2022 على موقع teram

العمليات العسكرية عبر الحدود التي تنفذها الدول لحماية أمنها القومي ومكافحة الإرهاب لا تحددها الظروف المحلية والتطورات الميدانية في البلد الذي تجري فيه فحسب. حيث تتمحور أي عملية عابرة للحدود حول الظروف والتوازنات الدولية. وهذه القاعدة لن تتغير سواء كانت الدولة التي ستنفذ العملية هي أكبر قوة عسكرية في العالم أو دولة متوسطة الحجم. كما أن عملية “مكافحة الإرهاب” الجديدة المتوقع أن تنفذها تركيا في سورية، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتوازنات الدولية.

يمكن أن يظهر لنا البحث في هذه التوازنات ردود الفعل الناتجة عن العملية إذا تمت. كما ستكون نقطة انطلاق مهمة للغاية من حيث فهم المواقف والسلوك وأساليب العمل المحتملة للدول الأخرى التي سيكون لها ردود فعل على العملية بطريقة سرية.

وبناء على ذلك، قد يكون من المفيد أن نبدأ تحليلنا بفرضية أساسية للغاية فيما يتعلق بالعملية العسكرية التركية في شمال سورية، وهي انه سواء كانت العملية العسكرية التي قد تجري تقتصر على “تل رفعت” أو تمتد إلى “منبج” أو مناطق أخرى تعتبر ضرورية، فإنها ستؤثر على التوازنات في سورية بكافة الاشكال.

 قد يطرح شخص ما يقرأ -هذا الافتراض-على الفور السؤال التالي: لماذا يمكن لعملية عسكرية ضد بلدة أو منطقتين صغيرتين في شمال البلاد أن تؤثر بشكل كبير على التوازنات في سورية؟ الإجابة على هذا السؤال ليست معقدة على الإطلاق، لأن الوضع الراهن (status quo) في سورية يمنع الأطراف من اللجوء إلى خطوة كبيرة، وأي تغيير في محتوى وشكل الصراع -المحتمل-نتيجة للتطورات المفاجئة غير المنضبطة يمكن أن تزعزع هذا الوضع الراهن.

لنحاول فهم الوضع العام في سورية حتى نتخلص من الأبعاد التكتيكية والعسكرية للعملية المحتملة للحظة، ولننظر في النتائج المحتملة. فلا يمكننا فهم معايير هذا التحليل بمجرد النظر إلى التطورات داخل سورية، لذلك، يبدو أن تحديد الوضع الحالي عبر التحليل من الخارج إلى الداخل هو طريقة أكثر فائدة لفهم ما يجري، ويمكننا حصر العوامل الخارجية المؤثرة على الوضع الحالي في سورية على النحو التالي:

  • تأثير الحرب الأوكرانية: تعتبر الحرب بين روسيا وحلف الأطلسي، المستمرة في أراضي أوكرانيا منذ نحو 5 أشهر، من أهم العوامل المؤثرة على التوازنات في سورية، حيث أنه من غير المعقول أن الحرب في أوكرانيا، التي لها تأثير كبير على العديد من التطورات حول العالم، بدءً من أسعار المواد الاستراتيجية إلى التطورات الاقتصادية في الدول الغربية، وصولاً للمفهوم الدفاعي الجديد لحلف شمال الأطلسي، إلى توازن القوى في الشرق الأقصى، أن لا تؤثر على التوازنات في سورية، ببساطة، يمكن وصف آثار الصراع في أوكرانيا على سورية على النحو التالي:
  • أ‌- سحبت روسيا بعض قوتها العسكرية من سورية للتركيز على الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل فشلت في تعزيز / تناوب قواتها في سورية لأسباب لوجستية.
  • ب‌- خلق الصراع في أوكرانيا مشكلة كبيرة بين روسيا والاقتصاد العالمي. حيث قيدت روسيا جزئياً أنشطتها العسكرية في سورية في محاولة لخفض تكاليف العملية في سورية، على الأقل لفترة من الوقت.
  • ت‌- تجنبت الولايات المتحدة الأمريكية أي مبادرة مهمة في سورية لأنها ركزت اهتمامها ومواردها على أوكرانيا. ومع ذلك، لم يحدث أي تغيير في علاقاتها مع منظمة YPG / PYD “الإرهابية” في سورية، في الواقع، استمرت في الحفاظ على علاقاتها القوية مع “وحدات حماية الشعب / حزب الاتحاد الديمقراطي”، حيث قد تفقد “الحكومة المركزية” في سورية قوتها مع إضعاف روسيا، وقد تبرز إمكانية تفكك البلاد مرة أخرى.
  • ث‌- خلال الفترة التي اتخذت فيها الولايات المتحدة وروسيا موقفاً لصالح استمرار الوضع الراهن في سورية لخوفهما من وضع جديد فيها، استغلت إيران الفرصة لزيادة نفوذها في سورية.
  • ج‌- في الوقت الذي كانت فيه “إدارة الأسد” تخطط للعودة إلى النظام الدولي لعام 2022؛ حتى أثناء انتظار الدعم المالي من دول المنطقة أو القوى العالمية لإعادة إعمار سورية، لم تتمكن من تحقيق هذا الهدف. بل على العكس من ذلك، أصبحت “إدارة بشار الأسد”، التي تأثرت بالأزمة الاقتصادية العامة في العالم، أكثر اعتماداً على الدعم الخارجي. وعندما لم تتمكن من الحصول على الدعم الذي كان يتوقعه من روسيا، اقترب من إيران للتغلب على أزمة النفط.
  • ح‌- وأخيراً، أدى ضعف روسيا النسبي، إلى جانب الرسالة القائلة بأن إيران ستقف إلى جانب سورية بشتى الاشكال، إلى إيجاد البيئة المناسبة للثغرة التي تحاول إيران فتحها في سورية منذ عام 2018، فزادت من عدد مجموعات الميليشيات، وبنت قواعد عسكرية جديدة وانتشرت على مساحة أوسع.
  • التغير العام في توازنات الشرق الأوسط:

تركت بيئة الصراع التي حاولت دول الخليج خلقها في الشرق الأوسط من خلال تهديد إيراني “مبالغ فيه” قبل عام 2020، مكانها لبيئة لا يبدو أنها تضع إيران في المقدمة، ولكنها تعمل لتنسيق الجبهة المناهضة لإيران.

إن سياسة “منع” إيران، التي تعززت في عهد “أوباما” وانعكست في السياسة الدولية بإيماءات مبالغ فيها خلال فترة “ترامب”، (صفقات السلاح على سبيل المثال) تتواصل اليوم بشكل أكثر هدوء وفاعلية.

كما انه لم تتخلَ “الإمارات الخليجية” عن فكرة إقامة علاقات مع “إسرائيل” وإضعاف إيران من خلال هزيمتها في دول مثل سورية ولبنان واليمن وحتى العراق، ولكن مع ذلك، يبدو أن طريقة تأسيس تحركات الدول المناهضة لإيران ليس عبر وسائل الإعلام وصفقات الأسلحة المثيرة أو إظهار القوة، وإنما من خلال تحالفات “مخصصة” على الطراز القديم هي الأفضل.

بدأت العلاقات شديدة التوتر تشهد تراجعاً بين دول مثل الإمارات والسعودية وإسرائيل وتركيا، فقبل عامين بدأت حالة التهدئة بعد ان كانت في حالة من الصراع وواجهت صراعات عسكرية بأشكال مختلفة وعلنية في ليبيا وسورية والعراق.

حيث استؤنفت مرحلة الحوار في العلاقات التركية الإسرائيلية، وكذلك علاقات تركيا الاقتصادية مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة باتت فعلياً في طليعة العلاقات السياسية، وتواصل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى إرسال رسائل “دافئة” إلى “إسرائيل”.

في عالم تتصارع فيه الولايات المتحدة الامريكية وروسيا بشكل غير مباشر في أوروبا الشرقية، شرعت الدول التي ترى أن أياً من الدولتين لن تعود مباشرة إلى الشرق الأوسط على المدى القصير، في عملية تعاون صامتة ولكنها فعالة لتحقيق التوازن مع إيران، في حين استغلت إيران هذه الفرصة لتوسيع نطاق نفوذها.

الحرب “الأهلية” في اليمن التي استمرت أطول من اللازم بالنسبة للسعودية، والعامل العربي الشيعي الذي لم يكن بالإمكان موازنته في العراق بالنسبة لدول الخليج، ووصول إيران القوي المستمر إلى لبنان عبر العراق وسورية بالنسبة لـ”إسرائيل”؛ كما أصبح العامل الإيراني الذي يواجه تركيا باستمرار في السياسة العراقية ولبنان وسوريا، قضية مهمة.

  • الأزمة الاقتصادية: مرت سنوات منذ انهيار الاقتصاد السوري، فحتى بالنسبة لأي بلد غني في العالم، فإن 10 سنوات من الحرب “الأهلية” تسبب مشاكل اقتصادية ضخمة، لقد كانت التكلفة الاقتصادية للحرب “الأهلية” مدمرة لبلد مثل سورية، الذي لم ينجح في التصنيع، ناهيك عن إنتاج المنتجات ذات القيمة المضافة العالية بعد الصناعة، ولديه موارد طبيعية محدودة للغاية، ولم يصبح مركز جذب مالي، ولم يقترب من الحصول على مكان مهم في الاقتصاد العالمي بالإنتاج الزراعي.

حتى قبل الحرب “الأهلية”، لم يكن الاقتصاد السوري من بين ألمع الاقتصادات في العالم وحتى في الشرق الأوسط، لكن البنية التحتية الاقتصادية التي دمرتها الحرب “الأهلية” جعلت “الإدارة السورية” تعتمد كلياً على مصادر خارجية، ولهذا السبب، انعكس الوضع التضخمي العام في الاقتصاد العالمي على الاقتصاد السوري مع ارتفاع كبير جداً في الأسعار، فعندما أصبحت السيطرة على النفط والغاز الطبيعي-المحدود-في شمال شرق البلاد خارج سيطرة “الحكومة المركزية”، أصيبت الحياة الاقتصادية في سوريا بالشلل، وتشهد نقص خطيراً في النفط والغاز من وقت لآخر في بعض المناطق التي يسيطر عليها النظام، وايضاً هناك زيادة خطيرة في أسعار المواد الغذائية في جميع أنحاء البلاد، وأسعار المواد الغذائية الأساسية وخاصة الخبز التي تدعمها الحكومة، تتجاوز بكثير ما يستطيع غالبية الناس تحمله، ومع ذلك، فإن هذا الوضع لا ينطبق فقط على المناطق الخاضعة لسيطرة “إدارة الأسد”، ولكن أيضاً في إدلب فهناك صعوبات اقتصادية خطيرة حتى في المناطق التي يسيطر عليها الجيش السوري الحر وحتى “حزب الاتحاد الديمقراطي”.

وفي ضوء هذه العوامل الخارجية الأساسية الثلاثة، يمكن تلخيص التوازنات التي حدثت في سورية خلال الأشهر الخمسة الماضية على النحو التالي:

  • تريد كل من الولايات المتحدة وروسيا وإيران استمرار الوضع الراهن في سوريا لأسباب مختلفة، وهي لا تحبذ عملية عسكرية قد تغير التوازن في سورية.
  • لا تريد الولايات المتحدة أن تحدث أزمة مع تركيا سببها سورية، فهي مشغولة بشكل جدي في أوكرانيا، واكتسب دور تركيا في الناتو أهمية في العلاقات مع تركيا، ومع ذلك، فإن عدم فعالية الفاعل المحلي في شمال شرق سورية، الذي اسُتثمر فيه منذ فترة طويلة ويخطط لإنشاء منطقة في إطار مماثل للعراق في المستقبل، سيوجه ضربة كبيرة للخطط الاستراتيجية للولايات المتحدة.
  • لا تريد روسيا إنفاق الأموال والموارد والسلطة السياسية على سورية بسبب آثار الحرب في أوكرانيا، لذلك، فهي ضد تغييرات كبيرة، إلا أنها غير مرتاحة لجهود إيران للاستقرار في المناطق التي اضطرت روسيا للانسحاب منها وأخذت مكانها في دمشق خلال هذه الفترة.
  • يمكن القول أيضاً أنه في الوقت الذي تشعر فيه روسيا بالقلق من تعزيز إيران، خاصة في حلب وحماة وحمص ودير الزور والحدود “الإسرائيلية”، فإنها تتابع عن كثب جهودها لزيادة نفوذها في دمشق.
  • بالرغم من أن روسيا تحاول منذ فترة إعادة حزب الاتحاد الديمقراطي والنظام إلى طاولة واحدة بتحركات سياسية إلا أنها لم تستطع الحصول على النتيجة المرجوة من هذه المحاولات، بالإضافة إلى ذلك فإنها منزعجة من التطورات في إدلب، حيث ترى في ترسيخ قوة “هيئة تحرير الشام” في إدلب العقبة الرئيسية أمام سيطرة النظام طويلة الأمد على هذه المنطقة.
  • منذ عام 2018 كانت إيران تحاول ببطء ولكن بثبات توسيع دائرة نفوذها في سورية في كل فرصة تجدها. لقد أحرزت تقدماً كبيراً في جهودها لإنشاء مجال نفوذ، خاصة مع وجود خط لوجستي غير متقطع يمتد من حدودها إلى البحر الأبيض المتوسط ​​، والذي بدأ في نهاية عام 2021 وتسارع بعد حرب أوكرانيا ومن أهم أجزاء ذلك حلب التي تحاول إيران تحويلها إلى مركز رئيسي للنشاطات الشيعية في سورية على المدى الطويل. إن الوجود الإيراني في شمال وغرب حلب ليس مهماً للوجستيات العسكرية فقط، ولكن لأهدافه السياسية والاجتماعية بعيدة المدى ايضاً.
  • على الرغم من استمرار “حزب العمال الكردستاني / وحدات حماية الشعب” في تلقي الدعم من الرأي العام الأمريكي والغربي في إطار القتال ضد “داعش “، إلا أنها لم تتجاوز كونها منطقة عمليات متقدمة، ويُعد تراجع أهميتها مع حرب أوكرانيا علامة مهمة على ذلك.

عند تقييم العوامل المذكورة أعلاه معاً، يمكن توصيف المعادلة السياسية العامة قبل العملية القادمة في أبسط أشكالها على النحو التالي:

كما رأينا أعلاه، يبدو أن الولايات المتحدة وروسيا وإيران تدعم استمرار الوضع الراهن في سورية لأسباب مختلفة، لا يدعم أي منهم العملية العسكرية التركية، ومع ذلك، فإن أيًا من هذه الدول، التي تُعد أهم الجهات الخارجية  المؤثرة في سورية، ليست في وضع يمكنها من الرد بقوة على عملية محدودة. التطورات في إطار الولايات المتحدة وأوكرانيا وحلف شمال الأطلسي؛ روسيا، ودور تركيا في الحرب الأوكرانية، ومكانة تركيا كواحدة من المنافذ النادرة لانفتاح الاقتصاد الروسي على العالم، والمخاوف التي خلقتها التوسعية الانتهازية الإيرانية لها.

من ناحية أخرى، تعارض إيران العملية التركية المحتملة بسبب ضعفها العسكري والسياسي ضد تركيا في منطقة العمليات المحتملة؛ ومع ذلك، بالنظر إلى التطورات الميدانية ومواقف الأطراف، يمكن القول إنه بقدر ما تقتصر عملية تركيا على منطقة جغرافية معينة في “غرب الفرات”، فإن ردود أفعال هذه الجهات ستكون فقط على أساس طردي، ولن تكون هناك استجابة يمكن أن تؤدي إلى نتائج في هذا المجال. من ناحية أخرى، يمكن القول إن دول الخليج وإسرائيل لم تعارض أو حتى تدعم ضمنياً عملية عسكرية محدودة لأنها تعني الحدّ من مجال نفوذ إيران.

وفي ضوء كل هذه العوامل، إذا ما وقعت عملية عسكرية، فلا يمكن القول إن الدول المعنية ستظل غير مستجيبة تماماً، في هذا الاتجاه؛

– تورط إيران في الصراع مع حزب العمال الكردستاني / وحدات حماية الشعب على الأرض خلال واثناء العملية من خلال مجموعات الميليشيات المختلفة، التي كانت إيران موجودة في أجزاء مختلفة من “غرب حلب” و”شمال حلب”، وخاصة في “نبل والزهراء” ؛ تحاول أيضًا وضع الفرقة الرابعة في الجيش السوري (وحدة الجيش السوري تحت التأثير الإيراني المفتوح) في الميدان.

– مناورات روسيا الاقتصادية والدبلوماسية من خلال وضع ورقة “إدلب” في الميدان حتى لا تتجاوز العملية حداً معيناً، وكذلك مضايقة الجيش الوطني السوري أحياناً حتى لا تتجاوز العملية التوقعات.

– بقيت الولايات المتحدة في البداية على أهبة الاستعداد، لكنها تغض الطرف عن استراتيجية “وحدات حماية الشعب” في نشر الصراعات وتصعيدها إذا كانت منطقة العمليات تغطي “منبج”.

– من ناحية أخرى، يمكن توقع أن تتبع “وحدات حماية الشعب / حزب العمال الكردستاني” استراتيجية تصعيد تركز في الغالب على منطقة “درع الفرات ونبع السلام” والحدود التركية كمنطقة صراع، وبالتالي زيادة التوتر بين الولايات المتحدة وتركيا من خلال جذب تركيا لتنفيذ عمليات في هذه المناطق أيضاً.

ترجمه لـ”السورية.نت” نادر الخليل  زميل  في “مركز عمران للدرسات الاستراتيجية”


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا