الليرة تنهار مجدداً.. ليست “لعنة فراعنة”

تنبأ كثيرون، بعد أيام من اشتداد أزمة قناة السويس، التي بدأت منذ الثلاثاء الفائت، بأن السفينة التي أغلقت هذا المسار العالمي الاستراتيجي، ستكون “جناح الفراشة”، الذي سيتسبب بـ “دومينو” من الأضرار الاقتصادية، وربما لاحقاً، الاستراتيجية، على صعيد قطاع الشحن والتأمين العالمي.

لكن، وبعد إجلاء السفينة العالقة، وفتح القناة أمام الملاحة الدولية مساء الإثنين، اتضح بأن الليرة السورية، ربما، هي الأكثر تضرراً من جراء “جناح الفراشة” ذاك، ومواطنو المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، هم الأكثر تألماً من جراء “دومينو” الأضرار المتوقع.

فمنذ أن أطلق وزير النفط بحكومة النظام، خبر أزمة الوقود الجديدة المرتقبة، مرتكزاً على أزمة قناة السويس –كتبرير- تنبه تجار السوق السوداء إلى مخاطر تأخر التوريدات العالقة بسبب إغلاق القناة، وما يعنيه من تأخر وصول البضائع والسلع المستوردة بحراً، إلى كثير من دول العالم، ومنها سوريا، بما في ذلك، الوقود الذي بات سلعة تصل إلى مناطق النظام، بـ “القطارة”.

وخلال يوم ونصف فقط، فقدت الليرة السورية 13,5% من قيمتها، وخسرت 450 ليرة سورية مقابل الدولار الواحد، لتشطب بذلك، حوالي ثلث المكاسب التي حققتها خلال الأسبوع الفائت، والتي جهد النظام، بأجهزته الأمنية، ومصرفه المركزي، حوالي الشهر، كي ينجزها. وفرض في سبيل ذلك، إجراءات تقييدية مضرّة على المدى البعيد، فقط من أجل تحسين سعر صرف الليرة التي انهارت إلى أدنى مستوى لها في تاريخها، قرب 4800 للدولار الواحد، منتصف الشهر الجاري.

واللافت للانتباه، أن الليرة السورية تضررت جراء أزمة قناة السويس، بصورة أكبر بكثير، مقارنة بأكثر الدول والسلع ارتباطاً بالأزمة ذاتها. ففي مصر، التي خسرت أكثر من 100 مليون دولار، خلال أسبوع، جراء أزمة إغلاق القناة، كخسائر مباشرة، ناهيك عن الخسائر غير المباشرة المرتقبة، لم تهتز عملتها، ولم تسجل أي انخفاض يُذكر.

حتى، بالمقارنة مع سلعة النفط الخام، أكثر السلع حساسية حيال تعطل التوريدات وحركة الشحن العالمية، والذي ارتفع بنسبة 3%، جراء أزمة إغلاق القناة، تبدو أضراره طفيفة مقارنة بخسارة 13,5% التي ألمّت بالليرة.

ومع تخفيض مخصصات السيارات الخاصة والتكاسي، من البنزين، بنسبة 50%، في دمشق، كنتيجة لأزمة إغلاق القناة، يحق للسوريين أن يتحدثوا عن “لعنة فراعنة” أصابتهم، بالتزامن مع استعدادات مصر لنقل “موكب المومياوات الملكية” بعد بضعة أيام، في حدث استثنائي، تنفذه الحكومة المصرية، “دعاية” للسياحة في بلادها.

مناسبة هذا التشبيه، أن سلسلة الأحداث الأليمة التي ألمّت بالمصريين، خلال أسبوع، بدءاً بأزمة القناة، مروراً بحادث اصطدام قطاري سوهاج، وليس انتهاء بنشوب حريق في سكة حديد الزقازيق، وانهيار مبنى في منطقة جسر السويس، دفعت بعض المصريين إلى الحديث عن “لعنة فراعنة” طالت البلاد، جراء إصرار السلطات على نقل “موكب المومياوات الملكية”.

ورغم سذاجة هذا الحديث، تطلب الأمر من عالم آثار كبير، من رتبة “زاهي حواس”، أن يظهر على قناة مصرية، ليوضح أن “لعنة الفراعنة”، خرافة، وأن حالات موت بعض العلماء بعد فتح المقابر الأثرية في الماضي كانت بسبب أن الغرف التي توجد فيها المومياوات تحتوي على جراثيم سامة، نظراً لأن المومياء الفرعونية تكون محنطة منذ 3 آلاف سنة أو أكثر. وأوضح عالم الآثار المصري، أن حالات الموت تلك لم تعد تتكرر، بعد أن فهم المشتغلون في هذا المجال سرّ تلك “الميتات” الغريبة، وأصبح التعامل مع فتح المقابر الفرعونية يتم بطريقة احترافية.

لكن بالنسبة للسوريين الخاضعين لسيطرة نظام الأسد، يتطلب تبرير “لعنة” الانهيار الجديد الذي طال الليرة، ورافقته أزمة بنزين جديدة، تفسيراً أكثر جدّية، لم يتصدَّ له أحد، حتى الآن، في “إعلام النظام”، خاصة بعد التهليل الذي رافق التحسن الكبير الذي طرأ على سعر صرف الليرة السورية، من 4800 للدولار الواحد منتصف الشهر الجاري، حتى 3350 للدولار الواحد، مساء السبت. فمعزوفة “الانتصار” التي عزفها موالون على صفحات التواصل الاجتماعي، سرعان ما تعرضت لانتكاسة جديدة، قد يكون من المناسب تبريرها لديهم بـ “لعنة فراعنة”، بدلاً من الإقرار بالسبب الحقيقي لهذا الانهيار المفاجئ والسريع خلال 36 ساعة فقط.

فالليرة لم تنتعش، كنتيجة لإجراءات اقتصادية، بل نتيجة لإجراءات أمنية، مؤقتة التأثير، ومضرّة على المدى المتوسط والبعيد. فلا عجلة الإنتاج المحلي، دارت بوتيرة أفضل من السابق، ولا الاستثمارات الخارجية وجدت سبيلها إلى أروقة الاقتصاد السوري، ولا الصادرات ارتفعت معدلاتها. الليرة انتعشت جراء تدخلات من جانب المركزي التابع للنظام، ارتكزت فقط، على سحب السيولة المتاحة من الليرة في الأسواق. وهنا، اشتغلت آلية العرض والطلب الشهيرة -حينما يقل العرض، يرتفع السعر-. فسحب السيولة المتاحة من الليرة في الأسواق، أدى إلى رفع الطلب على الليرة، وبالتالي، تحسن سعر صرفها. وقد نفّذ المركزي ذلك، عبر إجراءات أمنية بصورة رئيسية. إذ شددت الأجهزة الأمنية بتوجيه منه، القيود على نقل الأموال بين المحافظات. وأعادت إحياء قرار قديم، وهو وقف الحوالات الداخلية لأكثر من مليون ليرة سورية، ومنع نقل أكثر من 5 مليون ليرة سورية، في المركبة الواحدة، بين المحافظات. إلى جانب شن حملة على مكاتب الصرافة والحوالات، وإغلاق بعضها، ومصادرة كميات كبيرة من السيولة المتاحة في تلك المكاتب، وحتى في منازل بعض كبار التجار الناشطين في سوق الصرف، في دمشق وحلب وحماة. رافق ما سبق، تشديد القيود على السحوبات المصرفية بسقف مليوني ليرة سورية، فقط.

لكن على المدى المتوسط والبعيد، فإن تجفيف السيولة من الليرة السورية، يعني ركود الحركة التجارية في البلاد، لذا فعلى النظام، مُضطراً، أن يتراجع مجدداً، عن القيود آنفة الذكر، كما سبق وتجاهل خرق قراره القديم بتقييد نقل السيولة بين المحافظات، والذي صدر في حزيران/يونيو من العام الفائت. أي أن إجراءات النظام، قصيرة العمر، مما يعني أن آثارها مؤقتة، وسرعان ما ستنحسر.

وحتى لو انتعشت الليرة مجدداً، بعد انتهاء أزمة إغلاق قناة السويس، باعتبار أن القيود على السيولة من الليرة، ما تزال قائمة، فإن هذا الانتعاش سيكون مؤقتاً. لتعود الليرة إلى سابق عهدها الذي استقرت عليه منذ العام 2012، وهو الذهاب نحو المزيد من الانهيار، سواء بشكل دراماتيكي، أو بشكل هادئ وتدريجي. ذلك أن أسباب تحسن سعر الصرف، أو استقراره، غير موجودة، ولا يبدو أنها ستتوافر في القريب العاجل. لذا، لا يوجد لدى النظام سوى الحلول الإسعافية المؤقتة، التي تستهدف لجم انهيار الليرة، على المدى القريب، لا أكثر.

لكن، ما كان ملفتاً، في الانهيار الأخير الذي طرأ على الليرة، بالتزامن مع أزمة قناة السويس، هو مدى هشاشة العملة السورية، بصورة جعلتها، بالنِسب والأرقام، أكثر الأطراف تضرراً من تلك الأزمة الدولية، رغم ضآلة الاقتصاد السوري. هشاشة قد يفسرها الموالون المتحمسون بأنها “لعنة”، قد يكون من الأنسب لهم نسبها إلى “الفراعنة”، لأنهم عاجزون عن الإقرار بأن السبب الحقيقي لهذه “اللعنة”، هو تلك العائلة التي يروجون لإعادة انتخاب “رأسها” بعد بضعة أشهر. والتي لا تبدو أن لعنتها ستزول قريباً عن الليرة، أو عن السوريين.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا