تكامل المسعى الروسي

شهدت الفترة الممتدة من اليوم السابع وحتى اليوم الثاني عشر من شهر تموز الجاري، مواجهاتٍ دبلوماسية وسياسية عالية الوتيرة، بين روسيا والصين من جهة، وبقية الدول الأعضاء في مجلس الأمن من جهة أخرى، وقد انتهت تلك المواجهة بقدرة الفيتو الروسي على تحقيق ما سعى إليه، أي تقليص فترة إدخال المساعدات الإنسانية من معبر باب الهوى الحدودي التركي من سنة، إلى ستة أشهر. ولئن كان الفيتو الروسي أمراً مُتوقَّعاً، وقد لوّحت بذلك موسكو قبل أشهر من اقتراب موعد التصويت على القرار ( 2165 لعام 2014 ) في مجلس الأمن، إلّا أن ما يمكن الوقوف عنده هو السياق الذي تنتظم فيه هذه المواجهة بالنسبة إلى الروس، فلعله ليس بجديد القول: إن المسألة لا تكمن في بعدها الإنساني بالمطلق، وكذلك لا تعكس خلافاً في التقديرات أو وجهات النظر حول آليات أكثر جدوى في وصول المساعدات الإنسانية إلى مستحقّيها، بقدر ما تكمن في منهج روسي متكامل الاتجاهات والأدوات في إدارة الصراع في سوريا، بل يمكن التأكيد على أن الملف الإنساني هو أحد المسارات التي واظبت موسكو على أن يكون رافداً للمسارات الأخرى التي استطاع الروس من خلالها إطباق الحصار على القضية السورية، ومن ثم الاقتراب إلى مرحلة تطويقها عسكرياً وسياسياً وإنسانياً، من خلال آليات وأدوات تكاد تكون متماثلة من حيث النتائج.

لقد اقتضى الموقف الحرج لنظام الأسد في آب 2013 التدخل المباشر للرئيس الروسي بوتين، ليعقد صفقة مع إدارة أوباما أفضت في اللحظات الأخيرة إلى إلغاء الاستهداف العسكري لنظام الأسد مقابل تجريده من السلاح الكيمياوي، وكانت تلك الصفقة بمنزلة طوق النجاة الأول الذي أتاحه الروس للأسد كي يستمر في السلطة، إلّا أن تحاشي الأسد للضربة الأميركية لم يُخرجه من مأزقه الميداني الذي كان يزداد سوءًا، ولم تستطع ميليشيات إيران آنذاك أن تُحدث تغييراً نوعياً في المعارك الميدانية، الأمر الذي دفع بقاسم سليماني للقيام بزيارة عاجلة إلى موسكو، ليبيّن لبوتين أن استمرار الأسد في السلطة بات يوجب تدخّلاً عسكرياً مباشراً من شأنه أن يغيّر موازين القوى على الأرض، وبالفعل لم تتردّد موسكو، إذ كان يوم الثلاثين من إيلول 2015 منعَطفاً خطيراً في حياة السوريين، إذ بدأت القوى العسكرية للمعارضة بالانحسار والتراجع، ولم يكن التدخل الروسي العسكري آنذاك مجرّد نجدة عابرة أو تدخّل مؤقت لإعادة التوازن إلى قوات الأسد، بل كان حرباً جديدة بدأها الروس، لم تستثن تلك الحرب المدنيين والبنى التحتية والمدارس والمخابز ودور العبادة، إنها حرب إبادة بكل المقاييس، وقد أفضت إلى بداية ميدانية جديدة مكّنتْ نظام الأسد من استعادة معظم المناطق والمدن التي كان قد فقد السيطرة عليها.

لقد حرص الروس أشدّ الحرص على استثمار مُنجَزهم العسكري، وتحويله إلى مكاسب سياسية من شأنها أن تدفع بخصوم الأسد إلى التقهقر شيئاً فشيئاً، فكان الهجوم الروسي على حلب الشرقية أواخر العام 2016 وتهجير أكثر من مئتي ألف مواطن من سكانها مدخلاً مناسباً وتمهيداً قويّاً للتأسيس لمسار أستانا في بداية العام 2017 ، والذي أفضى خلال سنتين – من الناحية الميدانية – إلى تمكين قوات الأسد من استعادة السيطرة على معظم محيط مدينة دمشق والقلمون ودرعا، كما أفضى سياسياً إلى تحييد مسار جنيف وإفراغ القرارات الأممية من محتواها الجوهري من خلال فرض فكرة السلال الأربعة في شباط 2017، ومن ثم اختزال القضية السورية برمّتها بلجنة دستورية استطاعت موسكو فرضها على المعارضة في لقاء سوتشي أواخر العام 2019 . تجدر الإشارة إلى أن مجمل التفاهمات الميدانية بين الدول الراعية لمسار أستانا (تركيا – إيران – روسيا) لم تكن ملزمة لموسكو ولم تكن حائلاً دون تقدّمها عسكرياً – بحسب نظرية القضم – متى وجدت الفرصة مناسبةً، ولعل الاجتياح الذي قام به الروس في شباط 2020 وأدى إلى احتلال سراقب ومعرة النعمان وكفر نبل ومعظم قرى وبلدات ريف أدلب، كما أدى إلى نزوح أكثر من 500 ألف مواطن إلى الخيام والعراء، إنما يندرج في سياق نظرية القضم ذاتها.

لقد أدّى تلازم المسارين العسكري والسياسي للمسعى الروسي، موازاة مع النأي الأميركي والأوربي، إلى إحكام القبضة على معظم مفاصل القوة لدى المعارضة، وظل المجال الإنساني وحده هو الشريان الواصل بين السوريين والمجتمع الدولي، مما جعل قطع هذا الشريان هدفاً روسياً ملازماً للأهداف السياسية والعسكرية، ومن هنا كانت الخطوة الروسية عام 2020 بالاعتراض في المجلس الأمن على القرار (2285) الذي يتيح دخول المساعدات الإنسانية إلى مستحقيها من أربعة معابر (باب الهوى – باب السلامة – الرمثة – اليعربية)، حيث تم حصر دخول المساعدات الإغاثية من معبر باب الهوى فقط، وذلك بموجب القرار (2165).

لا شك أن ما يريده الروس من وراء اعتراضهم على تمديد قرار إدخال المساعدات الإنسانية إلى الشمال السوري، لا يكمن في الرغبة في تجفيف هذا الشريان، بل بتحويله إلى حوزة نظام الأسد، ليكون مصدر إنعاش إقتصادي وسياسي له بآن معاً، ولعل التعديلات الروسية المقترحة بألّا تنحصر المساعدات الإنسانية بالشأن الغذائي والمعيشي والصحي فحسب، بل ينبغي أن تمتد لتشمل قطّاع الكهرباء والماء والصرف الصحي والتعليم أيضاً، أي تنفيذ خطّة ما يسمى “الإنعاش المبكّر”، وبهذا يهدف الروس إلى تحقيق مسألتين بآن معاً، تمكين النظام من التحكّم بمسار وتوجيه المساعدات الأممية، ثم استثمار تلك المساعدات في إنعاش البنية التحتية للنظام والالتفاف على قانون عقوبات قيصر.

قدرة موسكو على ليِّ ذراع المجتمع الدولي يوم الإثنين الماضي (12 – 7 – 2022) وفرض إرادتها بتقليص مدة صلاحية القرار (2165) إلى ستة أشهر بدلاً من سنة، هي تجسيد آخر لمنهج “القضم” ذاته الذي تعتمده موسكو في المجالين العسكري والسياسي، أي التطويق المرحلي، والدفع بإحكام الحصار وإغلاق كل نوافذ الهواء على السوريين، وفي ظل غياب أي دور فاعل للمعارضات الرسمية، موازاة مع امتثال تلك المعارضات لدورها الوظيفي، ومواظبتها على الالتزام بالدوام الرسمي للقاءات اللجنة الدستورية، فإن الاجتماع المقبل لمجلس الأمن في يناير 2023، لمناقشة تمديد قرار إدخال المساعدات الإنسانية، ربما سيحمل مزيدا من الموجعات.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا