جائحة كورونا بين نظريات المؤامرة ووجودها

مع تصاعد مشاعر الهلع العالمي من فيروس كورونا المستجد، ولجوء دول كثيرة، على اختلاف قاراتها وخلفياتها ومستوياتها وأنظمة حكمها، إلى إجراءات وسياسات غير مسبوقة، في محاولة للحد من انتشاره واحتوائه، بدأت ما تعرف بنظريات المؤامرة تطل برأسها في سياق النقاش، أو قل التشاحن، بشأن أصل هذا الفيروس وحقيقة منشئه. استخدام مصطلح التشاحن هنا ليس اعتباطياً، فإذا كان الأناس العاديون يتناقشون في المسألة ضمن إطار من القناعات التآمرية المسبقة، والتي قد يكون بعضها مبرّراً، فإن دولاً لم تتردد أبداً في إطلاق اتهامات مباشرة بحق دول أخرى، بأن هذه مسؤولة عن نشر هذا الفيروس وافتعال هذه الكارثة الإنسانية الدولية.
أخطر اتهامين جاءا من الصين وإيران، أما المتهم، فهو الولايات المتحدة الأميركية. فهذا المتحدث باسم الخارجية الصينية، جاز ليجيان، يثير صراحة عبر تغريدة، في 12 من شهر مارس/ آذار الجاري، فرضية وجود مؤامرة عبر طرح احتمال أن يكون الجيش الأميركي هو من نشر الفيروس في بلاده. وحسب الحبكة الصينية الشائعة الآن، فإن جنوداً أميركيين شاركوا في الألعاب الرياضية العسكرية العالمية التي جرت في مدينة ووهان الصينية، في أكتوبر/ تشرين الأول 2019 قد يكونون جلبوا الفيروس معهم. ومعروف أن ووهان هي المدينة التي انتشر منها هذا المرض إلى بقية العالم. أما إيران، وهي من أكثر الدول تضرّراً بالفيروس، فقد اعتبرت، وعلى لسان غير واحد من مسؤوليها، أن كورونا ما هو إلا جزء من حرب “بيولوجية” تشنها الولايات المتحدة ضد خصومها الدوليين. وتتبنى الاتهام نفسه وتروّجه وسائل الإعلام الروسية.
في المقابل، لا تتردّد واشنطن، التي تنفي الاتهامات السابقة، في اتهام الصين بالمسؤولية عن الفيروس وانتشاره عالمياً. يسميه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، “الفيروس الصيني”. في حين اعتبر مستشار الأمن القومي الأميركي، روبرت أوبراين، أن محاولة الصين إخفاء الحقائق عن المجتمع الدولي عند اكتشافها الفيروس في ووهان، في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، هو ما تسبب في هذه الجائحة، إذ إنها حرمت الدول الأخرى من الاستعداد له. وأشار أوبراين إلى تقارير أكدت أن الصين أرغمت الأطباء الذين اكتشفوا حقيقة المرض على الصمت، وأنها فرضت عليهم عزلةً حتى لا يتحدثوا في الموضوع.
المفارقة هنا أن نظريات المؤامرة تلك تستند، إلى حد كبير، إلى مزاعم أطلقها محام أميركي، اسمه فرانسيس بويل. وقد جاءت تلك المزاعم في سياق مقابلة مع إذاعيٍّ أميركي يميني مثير للجدل، هو أليكس جونز. وهو معروف بتبنيه نظريات مؤامرة كثيرة، كما في ادعائه أن الولايات المتحدة لم تنجح في إنزال رجل على القمر عام 1969، أو أن الحكومة الأميركية هي من تقف وراء هجمات 11 سبتمبر في عام 2001. جديد بويل في سياق فيروس كورونا أن الولايات المتحدة طورت فيروس سارس، أو متلازمة الالتهاب التنفسي الحاد، إلى سلاح “بيولوجي”، مسنداً زعمه هذا إلى دراسةٍ علميةٍ نشرها باحثون في جامعة نورث كارولينا في شابل هيل. المشكلة أن الدراسة لا تقول ذلك أبداً، وهي تكتفي بإظهار وجود مجموعة من فيروسات كورونا في الخفافيش، يمكن لها أن تنتقل إلى الإنسان عن طريق العدوى.
ومعروفٌ أن فيروس سارس ضرب جنوب الصين، وانتشر في 17 دولة أخرى من شتاء عام 2002 إلى صيف 2003. وقد أصيب به أكثر من ثمانية آلاف شخص، توفي منهم حوالي 774. ويعتبر العلماء أن فيروس سارس ساهم في تمهيد الطريق لتفشّي فيروس كورونا، فثمة صلة جينية بينهما. أبعد من ذلك، نشرت مجلة “Nature Medicine”، المتخصصة، دراسة، في 17مارس/ آذار الجاري، أعدّها علماء، خلصت إلى أن فيروس كورونا المتجدّد، والذي هو أحد تفريعات فيروس سارس المتقدّمة، لم يثبت، بعد فحصه ودراسته، أنه قد تمَّ تطويره مخبرياً أو التلاعب في تركيبته بشكل متعمّد.
إذن، ليس من دليل قاطع على وجود مؤامرة في نشر الولايات المتحدة الفيروس في الصين وإيران، دع عنك أن يكون سلاحاً بيولوجياً. كما أنه لا يوجد دليل حاسم على أن الفيروس مطوّر صينياً لخدمة أغراض اقتصادية أو دولية لها. وينسحب الأمر على أي دولة أخرى توجه إليها أصابع الاتهام اليوم لسبب أو لآخر. هل يعني ذلك استبعاد نظرية المؤامرة من الموضوع كلياً؟ لا، وليس هذا المقصود. بمعنى أن أي افتراضات أو قراءات تقدّم في هذا السياق إنما هي قائمة على سوابق ومؤشرات وانطباعات، لا على حقائق وأدلة موثقة ودامغة، على الأقل حتى اللحظة.
ولكن إذا كان ما سبق يندرج في سياق الفرضيات ونظريات المؤامرة، فإن ثمَّة معطيات معلوماتية موثقة تؤكد أنه كان ثمة نوع من التواطؤ، ربما غير المقصود، في التسبب في جائحة كورونا. أولاها تستر الصين على مدى خطورة الفيروس أسابيع طويلة، على الرغم من محاولات أطباء كشف الحقيقة، إلا أن حجم الكارثة بلغ حداً لم تعد معه السلطات الصينية قادرةً على كبح الأخبار القادمة من ووهان. حينها، كان السيف قد سبق العذل، وبدأ الوباء في الانتشار في أرجاء المعمورة متحولاً إلى جائحة. أيضاً، نعلم أن دولاً كثيرة لم تأخذ التهديد على محمل الجدِّ، وذلك كما جرى في الولايات المتحدة، والتي أصرَّ رئيسها، أسابيع طويلة، وبعناد بلغ حدَّ الغباء، أن هناك مبالغة في الحديث عن خطر الفيروس، وأن الأمر لا يتعدّى أن يكون مؤامرة من الحزب الديمقراطي لإضعاف حظوظه الانتخابية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل.
الأمثلة هنا كثيرة، ولكن هناك معلومة شديدة الأهمية، كشفها تقرير مهم لقناة “أن بي سي نيوز” الأميركية، في الخامس من مارس/ آذار الجاري، يشرح كيف وصلت البشرية كلها إلى هذه النقطة التي قلبت العالم رأساً على عقب. ينقل التقرير المعنون “كان العلماء قريبين من تطوير لقاح لفيروس كورونا منذ سنوات لكن الأموال جفت”.. ينقل عن بيتر هوتز، المدير المشارك لمركز تطوير اللقاحات في مستشفى تكساس للأطفال وعميد الكلية الوطنية للطب في بايلور في هيوستن، أنه نجح وفريقه، عام 2016، في تطوير لقاح لفيروس سارس، والذي هو من فصيلة فيروس كورونا، إلا أنهم فشلوا في الحصول على تمويل، سواء من الحكومة الفيدرالية أم من المستثمرين حينها، والنتيجة أن ذلك اللقاح ما زال حبيس ثلاجة باردة منذ ذلك الوقت. وحسب هوتز، فإن تلك كانت فرصة ضائعة تدفع البشرية كلها ثمناً كبيراً جرّاءها. الأدهى أن هوتز، وعلى الرغم من جائحة كورونا الحالية ما زال غير قادر على إيجاد مستثمر واحد بين شركات الأدوية أو دعماً حكومياً. وتفسير ذلك، حسب خبير تطوير اللقاحات، جيسون شوارتز، أن تمويل الأبحاث الطبية مدفوع باحتياجات السوق الآنية، ولا يتم بشكل استباقي، بمعنى أنه قائم على حسابات تجارية ربحية بالدرجة الأولى بالنسبة لشركات الأدوية. بل يشير هوتز بوضوح إلى أن المستثمرين لم يحرّكهم انتشار فيروس كورونا المرتبط بمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية، عامي 2012 و2015، في الشرق الأوسط ودول كثيرة، ولا حتى تفشي إيبولا، بين عامي 2014 – 2016، في غرب إفريقيا ومناطق أخرى. أما السبب الذي يشير إليه خبراء آخرون فيتمثل في أن شركات الأدوية لم تر، حينها، في تطوير لقاحات مضادّة أمراً مربحاً تجارياً، فأعداد ضحايا الوباءين لم يكن كبيراً!
باختصار، إذا كان ثمّة مؤامرة في هذا السياق، فإنها مؤامرة النظام الرأسمالي الجشع الذي لا يرى في الإنسان إلا سلعة ومادة للتكسّب، ولو على حساب الأمن الصحي للبشرية. ولكن ومن باب أن المكر السيئ يحيق بأهله كذلك، فإن جائحة كورونا الحالية لم تَنْكُبْ حياة مئات الملايين من البشر فحسب، بل ها هي تشل مفاصل الاقتصاد الرأسمالي المتوحش أيضاً. وأحسن هوتز أن نبه أمام إحدى لجان الكونغرس، قبل أسابيع قليلة، إلى الكلفة الاقتصادية الكارثية على دول العالم، والتي تجاوزت مئات مليارات الدولارات، ذلك أن أصحاب الشأن من حكومات ومستثمرين استنكفوا عن استثمار بضع ملايين من الدولارات لتطوير لقاح لوباء كان العلماء يحذرون، منذ سنوات طويلة، أنه قادم. المشكلة أن المساكين في هذا العالم يذهبون ضحايا في ركاب الطماعين.
المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا