حصيلة قمة موسكو: إدلب التركية تقلّصت

كان واضحاً من الصورة التي التقطت لحظة خروج بوتين وأردوغان، برفقة الوفدين المشاركين، من مكان الاجتماع الماراتوني الذي استمر خمس ساعات وأربعين دقيقة، أن الرئيس التركي لم يحصل على ما يريد، بل ظهر العبوس جلياً على وجهه. ولا تقتصر الشكليات الكاشفة لمجرى المباحثات الصعبة على هذه الصورة، بل كان لافتاً أيضاً أن وزير الخارجية مولود شاويش أوغلو قال، في بيانه عن الاتفاق الجديد، “الجمهورية العربية السورية” بدلاً من الصيغة التي اعتاد الساسة الأتراك استخدامها، أي “النظام السوري” أو “نظام الأسد”.

ويمكن الاستدلال على مساوئ الاتفاق، من وجهة النظر التركية، أيضاً من خلال تعبير بشار الكيماوي عن “رضاه” عن نتائج اجتماع موسكو في المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الروسي معه في أعقاب توصله إلى الاتفاق الجديد بشأن وضع “منطقة خفض التصعيد” في إدلب وجوارها. فهذا الرضا لا يعكس فقط ما أملاه عليه سيده الروسي، بل كذلك بسبب نص الاتفاق الذي شرعن سيطرته على المناطق التي قضمتها ميليشياته بدعم من الطيران الروسي في الشهرين الأخيرين، وفتح الطريق أمام ابتلاع المزيد منها في الفترة القادمة.

ننتقل إذن من الشكليات إلى مضمون الاتفاق الملحق باتفاق سوتشي 2018 بين روسيا وتركيا. وقبل كل شيء، لم ترد في نص الاتفاق عبارة “وقف إطلاق النار” التي طالبت بها تركيا عشية سفر أردوغان إلى موسكو، بل “وقف العمليات العسكرية” التي لا تشمل – طبعاً – الحرب على المنظمات الإرهابية التي نفهم من نص الاتفاق أنها مستمرة. هذا يعني أن المقصود بوقف العمليات العسكرية هو تركيا وقواتها والفصائل المسلحة السورية المؤتمرة بأمرها. في حين يتعهد “الطرفان” بمواصلة الحرب على “جميع المنظمات الإرهابية وتلك المصنفة إرهابية من قبل الأمم المتحدة”! واضح ان الإضافة الأخيرة جاءت بطلب من تركيا التي تشكو من اعتبار روسيا جميع الفصائل التي تقاتل النظام الكيماوي إرهابية، في حين أن لوائح الأمم المتحدة المعنية تخص هيئة تحرير الشام وفصائل أصغر منها تابعة لمنظمة القاعدة. وما كان لتركيا أن تعترض على القسم الأول الذي فرضته روسيا (جميع المنظمات الإرهابية) لأنها حريصة على تبرير حملاتها العسكرية على مناطق سيطرة قوات سوريا الديموقراطية سابقاً، فهي تعتبر تلك القوات، وبالأخص وحدات حماية الشعب الكردية، منظمات إرهابية، مع أنها غير مصنفة كذلك لا على لوائح الأمم المتحدة ولا على لوائح أي دولة أخرى غير تركيا.

لم تقتصر خسارات تركيا في موسكو على الجانب العملياتي (وقف العمليات العسكرية ضد ميليشيات النظام) بل إن الاتفاق دفع بمواقع تواجد القوات التركية المسموحة شمالاً إلى ما فوق خط طريق حلب اللاذقية الذي من المفترض أن يتم تأمينها خلال أسبوع واحد بعمق ستة كيلومترات من الجانبين، وتسيير دوريات مشتركة روسية – تركية. أما طريق حلب – دمشق، وضمناً عقدة التقاطع في سراقب، فقد بات كلياً تحت سيطرة النظام الكيماوي. وهكذا، بدلاً من تحقيق مطلب تركيا بتراجع قوات النظام إلى حدودها السابقة وفقاً لاتفاق سوتشي 2018، سيحتفظ الأخير بما ابتلعه من أراض جديدة في الحملة الأخيرة التي أدت إلى نزوح مليون مدني باتجاه الحدود التركية المغلقة بجدار عازل.

لا يتضمن نص الاتفاق أي إشارة إلى مصير نقاط المراقبة التركية التي باتت تسعة منها مطوقة من ميليشيات الأسد جنوب طريق حلب اللاذقية وشرقي طريق حلب دمشق. لا نعرف ما إذا كان ثمة بنود غير معلنة تشمل مصير النقاط المذكورة، ولكن بالنظر إلى خريطة النفوذ العسكري الجديدة يمكن أن نتوقع سحب تلك النقاط من الجنوب والإبقاء على النقاط الواقعة في “إدلب المقلصة” شمال الطريق المذكور.

ولا يقتصر تقليص منطقة النفوذ التركية في إدلب، على فرض أنها كانت كذلك قبل المعارك الأخيرة، على المساحة الجغرافية، بل يشمل أيضاً المدى الزمني، وإن كان هذا غائباً عن نص الاتفاق. فما دامت حرب بوتين على الإرهاب مستمرة، فالهدف الروسي هو بسط سيطرة تابعه الأسدي على كامل منطقة خفض التصعيد. وهو هدف معلن على أي حال يكرره الناطقون الروس كل حين وحين. ربما تكسب تركيا زمناً إضافياً، لا نعرف مداه، قبل أن يطالبه الروسي بسحب قواته من المنطقة. وعلى أي حال لم تكن لدى القيادة التركية أوهام بشأن بقاء قواتها في هذه المنطقة إلى ما لا نهاية. لكنها استماتت في محاولة قطع الطريق على تقدم ميليشيات النظام لكي لا تضطر، بعد حين، إلى القتال دفاعاً عن بقائها في مناطق عفرين و”درع الفرات” و”نبع السلام”. كان قتالها في إدلب نوعاً من دفع الجبهة إلى الأمام لكي لا تضطر إلى القتال في الخطوط الخلفية.

هناك خسارة أكبر لتركيا لا تظهر في نص الاتفاق، بل في مجمل المعركة بجانبيها الميداني والدبلوماسي، ألا وهي أن مراهنتها على دعم واشنطن وحلفائها الأطلسيين في مواجهة روسيا سقطت بما آلت إليه الأمور. تكشفت تلك المعركة عن مدى اعتماد تركيا على روسيا مقابل هشاشة تحالفها الأطلسي. وقد تكون لنتائج المعركة الميدانية – الدبلوماسية، بما في ذلك فتح الحدود الغربية أمام اللاجئين وما أدى إليه من مآس إنسانية من جهة اللاجئين، وردود فعل أوروبية غاضبة من جهة ثانية، نتائج بعيدة المدى على موقع تركيا بين روسيا وحلف الأطلسي.

كل هذا ولم نتحدث عن انعكاسات معركة إدلب على المجتمع التركي، من ارتفاع وتيرة ملاحقة الصحافيين ومنع التظاهرات المناهضة للحرب في إسطنبول، وارتفاع وتيرة الكراهية الموجهة ضد اللاجئين السوريين، وغيرها من المنعكسات السلبية.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا