حكاية اللاجئ السوري محمود

أودى الزلزال الذي ضرب ولاية ألازيغ التركية في 24 الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني)، بحياة عشرات الضحايا، إلى جانب آلاف الجرحى، وخلّف أضراراً بالغة بمساكن وممتلكات أتراك كثيرين، لكنه لفت انتباه الجمهور التركي العام إلى مقطع فيديو لسيدة تركية، ترقد على سرير أحد المشافي، وتشكر فيه لاجئاً سورياً شاباً اسمه محمود،.. محمود فقط، من دون لقب.
بصوتٍ مخنوق، تعرب السيدة عن امتنانها للشاب، لأنه خاطر بحياته من أجل إنقاذها من بين الركام الذي تسبب به الزلزال. وتسأل السيدة الأتراك: هل تعرفون أولئك السوريين الذين ننتقدهم؟ إنه شاب منهم اسمه محمود، بقي يحفر التراب بأظافره، حتى تمزّقت يداه، وهو يحاول إخراجنا من تحت الأنقاض.. لن أنسى ذلك الشاب ما دمت على قيد الحياة، وسأبحث عنه أينما كان بعد خروجي من المستشفى.
حالة من التعاطف حيال اللاجئين السوريين أثارها مقطع الفيديو الذي بثته معظم وسائل الإعلام التركية ومواقع ومنصات التواصل الاجتماعي، وتصدّر هاشتاغ #Suriyeli_Mahmut (محمود_السوري)، قائمة الترند على “تويتر” في تركيا، ولكن ليس متوقعا أن تغير حالة التعاطف هذه شيئاً من الواقع الذي يعيشه اللاجئون السوريون في تركيا.

ومن لا يعرف محمود، فهو محمود العثمان، ابن مدينة كرناز في ريف حماة. طالب يدرس الهندسة الميكانيكية في إحدى الجامعات التركية، ومثلما ذكرت السيدة التركية “محمود شاب مدني، وليس من طواقم الإنقاذ التابعة لآفاد (إدارة الكوارث والطوارئ التركية AFAD)، لكنه نجح في إخراجي من تحت الأنقاض”.
لم يستطع محمود أن يقف متفرّجاً أمام مأسـاة إنسـانية، أصابت ولاية ألازيغ التركية، روى ما حدث له: “فجأةً سمعت صوت سيّدة من بعيد، تتألم تحت الركام، فرحت أحفر بيدي”. وتمكن من الوصول إليها، ثم دار بينه وبينها حديثٌ قصير، وعرفت من لغته التركية الضعيفة أنه سوري، وتناوبا على جرّة الأوكسجين، قبل أنّ يُغمى عليها، وتُنقل إلى المشفى.
وقد تكون حكاية محمود مناسبة للحديث عن وضع السوريين في تركيا، والحملات الكارهة التي تعرّضوا لها، إذ ليس كل السوريين فيها مثل محمود، لا هم من صنف الملائكة ولا من الشياطين، وبالتأكيد لا يقفون في صنفٍ واحد، ولا الأتراك كذلك. وفي تركيا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون سوري، حسب الإحصاءات التركية الرسمية، معظمهم هرب من الجحيم التي فتح أبوابها عليهم نظام الأسد منذ نحو تسع سنوات، لأنهم خرجوا في ثورة مطالبين بالعيش الكريم، وفرّوا من الموت الذي كان يلاحقهم في بلدهم إلى المهاجر والشتات، ووجدوا في تركيا ملاذاً آمناً، وهناك سوريون جاءوا إليها لأسباب أخرى.

وقد تكون حكاية محمود مناسبة للحديث عن وضع السوريين في تركيا، والحملات الكارهة التي تعرّضوا لها، إذ ليس كل السوريين فيها مثل محمود، لا هم من صنف الملائكة ولا من الشياطين، وبالتأكيد لا يقفون في صنفٍ واحد، ولا الأتراك كذلك. وفي تركيا أكثر من ثلاثة ملايين ونصف المليون سوري، حسب الإحصاءات التركية الرسمية، معظمهم هرب من الجحيم التي فتح أبوابها عليهم نظام الأسد منذ نحو تسع سنوات، لأنهم خرجوا في ثورة مطالبين بالعيش الكريم، وفرّوا من الموت الذي كان يلاحقهم في بلدهم إلى المهاجر والشتات، ووجدوا في تركيا ملاذاً آمناً، وهناك سوريون جاءوا إليها لأسباب أخرى.
وجد السوريون أتراكاً استقبلوهم بترحاب وبتعاطف كبير مع مصابهم، وخصوصا في بدايات اللجوء. وفيما بعد، اختلف الأمر كثيراً، خصوصا بعد تسييس أحزاب المعارضة التركية مسألة اللجوء السوري، وهي أحزاب تنافس أردوغان على السلطة، وتعارضه في كل شيء وفق نهج يقوم على فقه النكاية. وقد وجدت جمهوراً واسعاً، انخرط في حملات كارهة لوجود السوريين، وساق عنهم قصصاً وحكايات فيها مبالغة، ولا تجد سندها في واقع حال اللاجئين.وجد السوريون أتراكاً استقبلوهم بترحاب وبتعاطف كبير مع مصابهم، وخصوصا في بدايات اللجوء. وفيما بعد، اختلف الأمر كثيراً، خصوصا بعد تسييس أحزاب المعارضة التركية مسألة اللجوء السوري، وهي أحزاب تنافس أردوغان على السلطة، وتعارضه في كل شيء وفق نهج يقوم على فقه النكاية. وقد وجدت جمهوراً واسعاً، انخرط في حملات كارهة لوجود السوريين، وساق عنهم قصصاً وحكايات فيها مبالغة، ولا تجد سندها في واقع حال اللاجئين.
لا يعدم الأمر وجود أتراك كثيرين، لم ينخرطوا في الحملات المناهضة للسوريين في تركيا، لكن مسألة الوجود السوري في تركيا تحوّلت، نتيجة الصراعات السياسية الداخلية، إلى مسألة تركية وطنية، مجرّدة من أي بعد قانوني دولي أو إنساني وأخلاقي، مع أنه يتوجب النظر إلى مسألة اللاجئين السوريين، من جهة اختبار النموذج التركي للديمقراطية، ومدى وجود بنية قانونية تحمي الإنسان وتحفظ حقوقه، بصرف النظر عن جنسيته، طالما يوجد على الأرض التركية.
وأصبحت مسألة اللاجئين السوريين مادّة للتوظيف السياسي، ما بين حزب العدالة والتنمية الحاكم وأحزاب المعارضة التركية، وخصوصا في الاستحقاقات الانتخابية، الأمر الذي كان ينعكس سلباً على وضع السوريين في هذا البلد، من جهة إثارته نزعاتٍ معاديةً لهم، حيث تسهم بعض وسائل الإعلام التركية في إلقاء تبعات تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية على السوريين، الأمر الذي يجعل غالبية المواطنين الأتراك الفقراء يصبّون غضبهم واستياءهم على اللاجئين السوريين، زاعمين أن ارتفاع الأسعار، وخصوصا إيجارات السكن وارتفاع نسب البطالة، سببها الوجود السوري، مع أن غالبية السوريين في تركيا يتقاسمون مع عامة الأتراك صعوبات الأوضاع المعيشية وتبعات النزعات الرافضة وجودهم وسوى ذلك.
ومع غياب البعد القانوني والحقوقي في تناول مسألة اللاجئين، حضر الخطاب الثقافوي والشعبوي، الطارد للغرباء أيّاً كانوا، والرافض للاختلاف، والذي يُحمّل الآخرين تبعات كل الأزمات والصعوبات، خصوصا عندما يطاول الأمر فئاتٍ ضعيفة، مثل اللّاجئين السوريين في تركيا الذين باتوا يقلقون على مصيرهم مع كل موسم انتخابي، حيث سكنهم خوف وجودي على مصير حياتهم في تركيّا مع كلّ مناسبةٍ انتخابيةٍ أو توتراتٍ وأزمات سياسيّة ما بين المعارضة والحزب الحاكم، حيث يجري توظيفهم فيها واستخدامهم النفعي، مع أنهم لا يمثلون سوى فئات بشرية مكشوفة وغير صلبة، ويخوض فيها الجميع.

يضاف إلى ذلك البعد الثقافي المشحون بالتاريخ، حيث سادت في الثقافة السياسية التركية تصنيفات تفصل ما بين الأتراك أنفسهم، بناءً على القسمة ما بين الغرب والشرق، حيث اجُترح مفهوم “الأتراك البيض”، وحُمّل على فئات أرستقراطية وغنية، احتكرت الامتيازات الثقافية والتعليمية. وهي فئة أتاتوركية علمانية ومتأوربة، تعتبر أن تاريخ العالم يسير نحو الغرب، وتسكن الأحياء الراقية من مدن تركيا الغربية الكبرى. أما “زنوج تركيا”، فجرى تخصيصه للأتراك العوام، وخصوصا سكان مناطق الأناضول والمناطق الجنوبية والشرقية الذين حرموا من المواد ومن السلطة، ويغوصون في طقوسهم الصوفية الإسلامية، وكانوا ممنوعين، حتى عهد قريب، من الدخول إلى إسطنبول، إلا في حالات خاصة.
وانعكس مفهوما التصنيف في الأدب التركي، حيث اجترح بعض كتابه حمولاتٍ ومركباتٍ لكل مفهوم، وخصوصا زنوج تركيا الذين تمّ رميهم بصفاتٍ، تضعهم في خانة الغرباء، أصحاب البشرة السمراء، الذين يغطي الشعر أجسادهم، وتفوح منها رائحة العرق والزنخ. وذهب كتابٌ صحافيون “بيض” إلى تفسير الحملات الكارهة للسوريين بالقول إن اللاجئين السوريين يذكّرون الأتراك بماضيهم الذي يحاولون التخلص منه، كونهم يشبهون الأتراك الزنوج في بشرتهم وأجسادهم وسلوكهم الخشن، وهو تاريخٌ طالما حاول الأتراك البيض التخلص منه، ومن الذين يذكّرونهم به.
لن تغير حكاية اللاجئ السوري محمود موقف الأتراك الكارهين للغرباء، على الرغم من تعبير أتراكٍ كثيرين عن أمتنانهم وشكرهم له، لكنها وإن استجلبت تعاطفاً، فهو مؤقت، لأن مسألة الوجود السوري جرى تسييسها في خضم التنافس على السلطة بين الحزب الحاكم (العدالة والتنمية) وأحزاب المعارضة، إذ ما تزال الأخيرة تحمّل اللاجئين السوريين ما يخدم خطابها. لكن اللافت أن الحزب الحاكم، أيضاً، لجأ كذلك إلى تحميل السوريين تبعات خسارته رئاسة بلديتي إسطنبول وأنقرة وسواهما. لذلك في أول جردة حساب أجراها لمعرفة أسباب الخسارة، خرجت الحكومة بقراراتٍ طاولت وجود السوريين في إسطنبول، وجرى ترحيل قسم كبير منهم إلى الولايات الأخرى، وبعضهم رُحّل إلى الشمال السوري، فيما تعتزم الحكومة التركية إعادة توطين مليون لاجئ سوري في المنطقة الآمنة التي سيطر عليها الجيش التركي بعد العملية العسكرية في شرقي الفرات.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا