حلب العائدة إلى الأسد

احتفى بعض من أهالي حلب باستعادة قوات الأسد سيطرتها التامة على محيط المدينة، الاحتفال تجاوز العدد الذي صورته قنوات الأسد التلفزيونية في الساحات العامة. والاحتفال أثار جدالات على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث كان عدد المحتفلين أضخم من عدد نظرائهم من الساحات، وهناك من وصم المدينة بالموالاة وهناك من دافع عن أهلها “المُكرهين” على محاباة الأسد وشبيحته، ولم يخلُ الأمر من التذكير بتأخر حلب في الانضمام إلى الثورة، أو إجبارها على الالتحاق بها عام 2012.

كالمعتاد، هناك تنميطات متبادلة تكتنف الجدل حول حلب، فالمدينة التي تعرضت في الثمانينات لثاني أكبر موجة قمع وترهيب بعد حماة يتوقع منها البعض الثأر لذلك الماضي. من وجهة نظر مقابلة، البرجوازية الحلبية أقامت تحالفاً متيناً مع سلطة الأسد، وهذا التحالف هو ما يحكم علاقتها بالحدث السوري، وفي هذا تكرار لصورة واظب إعلام الأسد على إبرازها بين الأحياء الشرقية التي خرجت عن سيطرته والأحياء الغربية التي بقي مسيطراً عليها، مع التركيز على الفارق الطبقي بين الاثنتين.

تجدر الإشارة إلى أن عدد سكان مدينة حلب يفوق عدد سكان دمشق، وعدد سكان مدينة حلب وريفها يفوق عدد سكان دمشق وريفها معاً، فضلاً عن سمعة الأولى كعاصمة اقتصادية للبلاد، واحتفاظها بهذه السمعة على الرغم من التغيرات العميقة الممنهجة التي أصابت الاقتصاد السوري تحت حكم الأسدية. في هذه السمعة، التي تحتمل الصواب، كان دائماً ثمة متسع لعدم فهم حلب والتغيرات التي ألمت بها، وعدم فهم أن المحافظة على المكانة الاقتصادية شأن مختلف تماماً عن طبيعة الشرائح الحاملة لتلك المكانة.

في التسعينات اشتُهرت حادثة في حلب، لعل فيها دلالة على الحال الذي وصلت إليه. في المدينة هناك نادٍ معروف جداً باسم “نادي حلب العائلي”، وهو نادٍ قديم للأرستقراطية الحلبية، حيث لا يُسمح بارتياده سوى للأعضاء وضيوفهم، والعضوية غير مفتوحة سوى “للنخبة”. في التسعينات، دخلت امرأة برفقة زوجها، وأتى المدير لاستقبالهما واختيار طاولة لهما، فبادرته المرأة قائلة: ما هذا النادي! لقد أصبح مليئاً بالضباط والنوفوريش “محدثي النعمة”؟ يُصادف أن يسمع استنكارها رئيس فرع المخابرات السياسية الذي يسهر في المكان، فيستدعي المدير ويبلغه بأنه إكراماً للنادي لن يعتقلها من داخله، لكنه سيفعل ذلك بمجرد مغادرتها. ينقل المدير الرسالة للمرأة متمنياً عليها الاعتذار فترفض، بخلاف زوجها الذي قبل على الأرجح لتجنيبها إهانة أكبر. هكذا لا يبقى حتى وقت متأخر من الليل سوى الزوجين والضابط ينتظر كل طرف منهما مغادرة الآخر أولاً، بينما تفلح اتصالات المدير أخيراً في الوصول إلى مسؤول أعلى من الضابط يتصل به ويطلب منه ترك المرأة وشأنها.

عزّة نفس المرأة بعدم اعتذارها ينبغي ألا تنسينا عبارتها الأولى ذات الدلالة الأعمق، وألا تنسينا أنها هي ذاتها تنتمي بتفكيرها إلى زمن تجاوزه الواقع بأشواط. يكفينا النظر إلى حجم الرأسمال الحلبي الذي هاجر إلى بيروت مع انقلاب البعث، بتنوعاته المختلفة لا الرأسمال الذي يوصف بالسني عادة، لنكون أكثر دقة في توصيف البرجوازية الحلبية الراهنة، والتي لا يختصرها وصف من قبيل محدثي النعمة، ما لم يكن متبوعاً بالمشاركة الإجبارية مع رجال السلطة عند بلوغ عتبة ما من الثراء. كانت الضربة القاصمة قد وجهها حافظ الأسد إلى تجار حلب وصناعييها في مطلع الثمانينات، إذ اعتبرهم آنذاك داعمين للإخوان المسلمين، بعدما حاول استمالة بقاياها التقليدية مع مطلع حكمه. أيضاً لدينا حادثة معبّرة من مطلع الثمانينات عندما اجتمع نائب الأسد في حزب البعث مع غرفة تجارة حلب وكال للموجودين الاتهامات، فرد عليهم أكبرهم سناً بالقول: لقد ربيناكم ولم تصبحوا إخواناً، أنتم ربيتم هذا الجيل الذي اتجه إلى الإخوان فتحملوا المسؤولية.

مع الانفتاح الاقتصادي الذي قرر حافظ الأسد انتهاجه في التسعينات، بسبب المتغيرات الدولية وبسبب تركيزه على تهيئة السلطة للوريث، برز في حلب محدثو نعمة كبار بالتزامن مع الأخبار عن علاقاتهم بكبار رجال السلطة ومنهم أبناء الأسد. كان الترخيص للمشاريع الجديدة، بموجب القرارات الصادرة حينها، يمر عبر تلك الشراكات، ولغياب المناخ الاقتصادي السليم الذي يشجّع شركات المساهمة ستشهد المدينة، تحت أعين المخابرات التي لا تنام، أكبر عملية سطو على الأموال كان يقوم بها جامعو أموال لقاء تقديم فوائد مغرية للمودعين قبل إعلان إفلاسهم. حجم الثروة المنهوبة بفضيحة جامعي الأموال سيعزز تلك الصورة النمطية عن الثراء الحلبي الذي لا ينضُب، من دون فهم لحيثياته.

ما تنفرد به حلب عن باقي المدن السورية هو الإعلاء من قيمتين، هما العمل والادخار. هذه ثقافة قلّما يتشربها الناس على نطاق واسع كما هو الحال في حلب، فالأهالي يدفعون الأولاد إلى اكتساب حرفة منذ الصغر، والحرفة هنا بمثابة ضمان اقتصادي لهم إن لم تكن مشروع يُسْر أو ثراء. لا يندر إطلاقاً أن يصل الحلبي إلى سن الخدمة الإلزامية ويتهرّب من الوجود الفعلي فيها، لأنه بحساب اقتصادي قادر على العمل بمهنته واكتساب دخل يفوق الرشوة التي يدفعها للضابط المسؤول، ولا يندر أن يصل إلى سن الدراسة الجامعية وقد إدّخر من عمله نفقاتها. بفضل هذا الكدّ والميل الادخاري حدث تحوّل ديموغرافي في المدينة، فنسبة كبيرة من سكان الأحياء والضواحي الغربية الحديثة ذات البيوت الغالية الثمن “مثل الزهراء والراشدين وغيرهما” هم أصلاً من سكان الأحياء الشرقية الأفقر، ما يدحض اللعب على القسمة بين غرب ثري وشرق فقير مستقرَّين منذ أمد بعيد وفق الصورة الرائجة.

التحصيل الدراسي ليس له الاعتبار نفسه لدى الحلبيين، لا لنفور من العلم والتعلم وإنما لنفور من أنواع التعليم التي تكون غايتها الأولى والأخيرة الحصول على وظيفة عامة ذات دخل محدود. احتقار الوظيفة العامة السائد له العديد من المستويات، فهو مرتبط بالعامل الاقتصادي، ومرتبط بتلك العلاقة التقليدية الحذرة بكل ما يمت إلى السلطة، وأخيراً بتلك القسمة التي جعلت الوظيفة العامة مرتبطة إلى حد كبير بأبناء الريف. ولعل حلب من أكثر المدن التي تُظهر تلك الحساسية الصافية بين أبناء الريف والمدينة، فهي ليست مثل دمشق التي اعتادت على غلبة الغرباء، وليست مثل مدن أخرى يبرز فيها الانقسام المذهبي بين الريف والمدينة ليطغى على الحساسية الأصلية. يُضاف إلى ذلك طبعاً صعود قسم من الريفيين مع انقلاب البعث، وتزايد الهجرة من الريف إلى المدينة الذي أصبح يُحسب على ذلك الصعود أكثر منه نتيجة حتمية لتهميش الريف وعدم الاهتمام بتنميته.

إذا شئنا اختزال مزاج الحلبي إزاء السلطة، وكل اختزال لا يخلو من التبسيط والتنميط، ربما يكون هذا المزاج أقرب إلى المحافظة والتوجس، فهو غير طامع فيها، ولا يأمل منها أكثر من أن تدعه وشأنه. إنه ميّال إلى الاستقرار، ولو كان مكلفاً، أكثر من ميله إلى مخاطرة قد ترتد عواقبها بكلفة أكبر. هو ليس موالياً وليس ثورياً، وإن كان في قرارته يتمنى تغييراً يزيح عنه سلطة لا يطيقها، على أن يأتي التغيير سريعاً وحاسماً ومضموناً لا يمس أمنه واستقراره. أما وأنه دفع ثمناً لقاء “مغامرة” غير محسوبة جيداً فهذا ما سيدفع البعض للوم أولئك المغامرين، بصرف النظر عما لاقوه ويلاقونه من تنكيل، وسيدفع بالبعض الآخر إلى إشهار موالاة متوقفة على معرفة المنتصر، بينما يلوذ آخرون بصمت هو الأكثر أخلاقية ضمن ظروفهم. يتاجر إعلام بشار باحتفالات حلبيين بانتصاره، لكنه أخبث من أن يصدّقها حقاً طالما أن المحتفلين مؤخراً كانوا سيحتفلون بسقوطه أيضاً لو كان متاحاً.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا