حلم نقل تركيا إلى جناح الطوارئ!

نهار الخميس المنصرم كان يوما ماليا عاصفا في تركيا. بدأ بقرار المصرف المركزي تخفيض سعر الفائدة المصرفية من 15 إلى 14 بالمئة تحت شعار “الفوائد البنكية رأس حربة الشرور التي تطارد الاقتصاد التركي”. النتيجة كانت كما توقع الجميع تراجعا قياسيا جديدا في سعر صرف الدولار ليصل إلى 16 ليرة تركية وتدخل المصرف المركزي للمرة الخامسة خلال أقل من أسبوعين في محاولة لوقف التدهور دون نتيجة. لينتهي اليوم مع إعلان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن رفع أرقام الحد الأدنى للأجور بنسبة 50 بالمئة وهي أعلى نسبة زيادة في تاريخ البلاد.

عند كتابة هذه السطور صباح السبت كانت اليافطات الإلكترونية في أسواق الصرافة تشير إلى أن سعر صرف الدولار قد وصل إلى 17 ليرة وكانت الأنباء تتحدث عن تحرك فرق أجهزة الرقابة والتفتيش مصحوبة بعناصر الأمن للقيام بعمليات دهم وتدقيق بحثا عن التجار الجشعين المحتكرين للبضائع والمواد الغذائية الأساسية لبيعها لاحقا بأسعار عالية. آراء غالبية الأتراك تلتقي اليوم حول ضرورة اتخاذ التدابير العاجلة لوقف تفاقم الأزمة الاقتصادية والمعيشية وتشعبها ولكن خارج التلميح بتفعيل المادة الدستورية رقم 119 التي تعطي رئيس الدولة حق إعلان حالة الطوارئ وهو ما ذكرنا به أحد الأكاديميين ورجال القانون الأتراك قبل أيام مما آثار غضب الحزب الحاكم والمعارضة على السواء.

اللافت هو رغم تفاعلات مشهد الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بتركيا منذ أشهر، وأثناء تبرع متطوعين للإجابة على سؤال هل يتهاوى الاقتصاد التركي على مرأى ومسمع “الجهود الجبارة” التي تبذلها بعض المؤسسات الإعلامية وخبراء الاقتصاد في العالمين العربي والغربي لضخ الحملات ضد تركيا والتي تتحدث عن طوابير الخبز وتراجع الرساميل والاستثمارات الأجنبية والترويج لحالة انعدام الثقة بالاقتصاد والأسواق التركية، وتحويلها إلى فرصة لتصفية الحسابات مع السلطة السياسية، ووسط كل ذلك كانت مدينة إسطنبول تضع اللمسات الأخيرة على انطلاق أعمال القمة التركية الإفريقية الثالثة بحضور أكثر من 40 قياديا ومسؤولا إفريقيا لبحث خطط تعزيز التعاون السياسي والاقتصادي الاستراتيجي. المؤكد هو أن أنقرة لم تعط البعض ما يريده بتراجعها عن تنظيم قمة من هذا النوع وسط الظروف الاستثنائية التي تعيشها. هي لم تفعل ذلك لأكثر من سبب:

– لتظهر للقريب والبعيد أنها ماضية في سياساتها الإقليمية وتعهداتها لشركائها وحلفائها الذين تنسق معهم سياسيا وعسكريا واقتصاديا.

– وأن أمنية البعض في الربط بين تراجع سعر صرف الليرة واحتمال تعرض الاقتصاد التركي لسقطة قوية بمثل هذه السهولة والسرعة مسألة مستبعدة، فهناك أسس متينة وصلبة تم رفع البناء الاقتصادي والتجاري عليها، وهناك مشاريع الاستثمار والصادرات ونجاحات اقتصادية ومالية ضخمة داخل تركيا وخارجها قادرة على مواجهة ما يجري.

– وأن الاقتصاد التركي وصل إلى معدلات نمو بلغت 21 بالمئة في الربع الثاني من العام الجاري، وهي من أعلى المعدلات في العالم، متجاوزا كل توقعات المؤسسات الدولية ومنها صندوق النقد والبنك الدولي، كما تفوق على اقتصاد نظرائه في دول مجموعتي السبع والعشرين حيث حققت الصادرات التركية إيرادات فاقت 170 مليار دولار في عام 2020 رغم جائحة كورونا والأزمات الاقتصادية العالمية.

– وأن تركيا ما زالت ملتزمة بسداد ديونها الخارجية دون أن تلجأ للاقتراض من صندوق النقد الدولي أو غيره من المؤسسات المالية الدولية وهو ما يريده البعض.

– وأن الاقتصاد التركي يعاني كما هو حال العديد من الاقتصادات الكبرى اليوم، لكنه لم يقترب من وضعية التعثر المالي كما تحاول أن تروج له بعض المؤسسات ووسائل الإعلام.

رغم امتلاك تركيا ما يقارب 127 مليار دولار واحتياطياً ضخماً يتجاوز مئات الأطنان من الذهب في مصرفها المركزي، وتمسكها بمشاريع التنمية في الداخل والالتزام بتعهدات الدعم المقدم للعشرات من الدول والشعوب والمحتاجين إليها أين ما كانوا، فهناك جهات محلية وإقليمية يهمها تراجع النفوذ والدور التركي الإقليمي وهي تنقل الحطب لتأجيج حملات الترويج لسقوط النموذج الاقتصادي التركي وتتحدث عن عجز مالي مرتقب وتراجع أرقام الاحتياطي النقدي في البنك المركزي يواكبه سيناريو تعثر دفع تركيا لديونها الخارجية، وأن معدلات الفقر والبطالة والتضخم في البلاد بدأت تحرك “ثورة الجياع” لتطيح بحكومة العدالة والتنمية. كم هو عدد الحكومات في العالم التي قررت رفع الحد الأدنى للأجور من 2826 إلى 4253 ليرة أي بزيادة 50 بالمئة استجابة لمتطلبات المرحلة الاقتصادية والاجتماعية عندها؟ ألا يشكل مثل هذا القرار مغامرة وعبئا إضافيا قد يتحول إلى كارثة مالية لو لم تكن السلطات السياسية واثقة من قدرتها على تنفيذ تعهدها؟

يدعو رفعت حصارجي أوغلو رئيس اتحاد الغرف التجارية والبورصات التركية لاتخاذ تدابير عاجلة لوقف النزيف وحالة الفوضى المالية. رفع أرقام الحد الأدنى للأجور لا بد أن يواكبه تحرك باتجاه مواجهة أرقام الغلاء والتضخم واضطرابات سوق الصرف وكل هذا يتطلب إطلاق سياسة مالية اقتصادية جديدة تأخذ بعين الاعتبار مراجعة طريقة إدارة الملفات حتى اليوم.

الجميع في تركيا ينتظر الرزمة الجديدة من التدابير والقرارات لكن لا أحد يعرف حدودها وكيف ستكون ترجمتها العملية والميدانية. لا يمكن لحكومة العدالة والتنمية مواصلة سكب المياه بالخراطيم في خزانات المياه المثقوبة من الأسفل. المعالجة لا بد أن تكون بسد الثقوب بدلا من زيادة نسب تدفق المياه. الأزمة هي أزمة انضباط مالي وإعادة كسب ثقة المواطن والمستثمر في الداخل والخارج وإعادة العافية لليرة التي فقدت حوالي 50 بالمئة من قيمتها خلال هذا العام حتى الآن.

قطع الطريق على أرقام الغلاء والتضخم وتراجع القيمة الشرائية لليرة لا بد أن يقابلها تحرك سريع وجذري لن يقل عن قرارات وخطوات حازمة وحاسمة لمواجهة تدهور سعر صرف الليرة. تركيا لا تحتاج إلى تفعيل قانون الطوارئ الاقتصادية لكنها تحتاج حتما إلى جملة من التدابير المالية والاقتصادية لوضع حد للنزيف الحاصل.

حكومة العدالة والتنمية تعرف جيدا أنها إذا لم تتعامل بسرعة وجدية مع متطلبات واحتياجات الطبقتين المتوسطة والفقيرة فهي ستخسرها سياسيا وانتخابيا عند أول ذهاب إلى الصناديق. فكل استطلاعات الرأي التركية الصادرة في الآونة الأخيرة تقول إن العامل الانتخابي الأول المؤثر في قرار المواطن هو الاقتصاد وتدهور الأوضاع المعيشية وانعكاساتها السلبية على حياته اليومية. المواجهة اليوم تتمثل في قطع الطريق على أن تمتص أسعار صرف الدولار أرقام زيادة الحد الأدنى خلال فترة زمنية قصيرة فيعاني الحزب الحاكم من ورطة امتصاص غضب الشارع طالما أن أرقام الغلاء والبطالة والتضخم أخذت منه سريعا ما دخل في جيبه.

هناك 16 شهرا تفصلنا عن الموعد الرسمي المعلن للانتخابات البرلمانية والرئاسية إذا ما بقي حزب العدالة مصرا على إجرائها بموعدها، لكن قوى المعارضة ستواصل تصعيدها وضغوطاتها مستغلة استمرار الأزمة وتردي أسعار صرف الليرة للوصول إلى هدفها الأول وهو الذهاب إلى انتخابات مبكرة تزيح من خلالها أردوغان وحزبه عن الحكم.

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا