خيارات درعا في السلام والحرب

كشفت أحداث محافظة درعا، المدينة التي انطلقت منها شرارة الثورة السورية (مارس/ آذار 2011) عقم المراهنة على التسويات التي عُقدت في ظل اتفاقات ثلاثي أستانة (روسيا وإيران وتركيا)، المتعلقة بخطط المناطق الأربع منخفضة التصعيد، أو حتى تلك التسويات التي تعهدت بها روسيا أمام الولايات المتحدة، وكانت مدخلاً لها لاستلام الملف السوري كاملاً، وتقديم مشروع حلولها لتسوية الصراع في سورية بين النظام الذي ترعاه مع إيران ليبقى على رأس السلطة في دمشق، والفصائل “المعارضة” في جهات سورية الأربع. ووفق ذلك، كان من المفترض أن تكون تسوية درعا النموذج الحي عن مشروع روسي قابل للتطوير في أكثر من مكان، فيما لو التزم النظام بنوده. إلا أن واقع الأحداث المتلاحقة، بعد اتفاق خفض التصعيد في ريف دمشق وحلب واليوم درعا، يؤكد أن تلك الاتفاقات لم ينجم عنها أي شيء من ذلك، بل أدّت إلى زيادة التصعيد، وزيادة التدخل العسكري الروسي إلى جانب قوات الأسد، بالشكل الذي نتج عنه تمكين النظام من استعادة مناطق عديدة في الجنوب والوسط والشمال، بحيث لم تبق سوى منطقة إدلب خارج ذلك الترتيب، وهذا ليس لمصلحة الشعب السوري وثورته، وإنما بسبب تقاطع المصالح الروسية ـ التركية، إلى جانب مصالح دولية أخرى، معنية بملف القاعدة، وضمن ذلك جبهة النصرة.

وفي ما يخصّ درعا، قد يفيد التذكير بأن ما يسمى “خفض التصعيد” فيها حصل بطريقة مختلفة، إذ لم يتم بطريقة الحسم العسكري، كما تم في دمشق وريفها وحلب وريفها، وإنما تم بالوساطة السياسية الدولية، وبرعاية أميركية مباشرة، وتحت نظر إسرائيل، وذلك لما يشكله موقع المنطقة الجنوبية من أهمية، سواء من الناحية الأمنية لإسرائيل، أو لرغبتها بوقف تمدّد إيران في المنطقة تحت مسمى مساندة النظام السوري في حربه على المتمرّدين عليه. ولذلك حظيت المصالحات الروسية على تلك التوافقات الدولية، وعقدت روسيا اتفاقا لفرض نوع من الهدنة بين النظام وفصائل المعارضة في درعا، أدّى إلى استعادة النظام سيطرته خدمياً، مع حفاظ المعارضة على وجودها المدني والمسلح.

وكما في كل تسوية سابقة، سواء برعاية موسكو أو حلف أستانة، فإن النظام يعتبر بنود الاتفاقات مجرّد هدنةٍ مرحليةٍ يتبعها تدخله العسكري، وما يجري اليوم يبين أن ما حدث في اتفاقيات ريف دمشق وحلب وريفها هو نهج النظام في فهم التسويات، وهو يوضح بصورة قطعية عقم دعوات المصالحة، إذ ليست تلك الكلمة من مفردات النظام أو من مصطلحاته، لأن النظام لا يتعاطى ألبتة مع الحلول السياسية، سواء برعاية من حلفائه أو برعاية دولية. إذ اعتمد، منذ البداية، أقصى الحلول الأمنية وأقساها، بكل ما فيها من أهوال، لقمع إرادة التغيير عند الشعب السوري أو لوأدها، ما نجم عنه تشريد الملايين، وقتل مئات الألوف واعتقال عشرات الآلاف.

على أية حال، فإن الاشتباكات الواسعة، والحامية، والدامية، التي حصلت وتحصل في درعا وريفها تؤكد أن ملف الصراع السوري، الذي لاقى نوعا من التهدئة، يمكن ببساطةٍ معاودة إشعاله، إنْ بحكم تفاعلات داخلية، أو بحكم تفاعلاتٍ خارجية، وأن منطقة إدلب التي تعيش على رماد تحته جمر ليست وحدها من ينذر بهذا الخطر القادم من الأسد، هذا مع علمنا أن ثمّة منطقة ثالثة، وهي شمال شرق سورية، أي غرب الفرات، قابلة للانفجار أيضاً. وعليه، فإن أيام التهدئة التي عاشتها سورية قبيل الانتخابات الرئاسية، وما جرى من مقاطعات شعبية لتلك الفعالية في درعا ومناطق أخرى، سيردّ عليها النظام حيث يستطيع ويتمكّن من ذلك، مع دراسة توازنات مصالحه وتقاطعاتها مع حلفائه من جهة، وبين حلفائه والأطراف الدولية المتدخلة في الملف السوري من جهة مقابلة.

وفصل القول، إذا كانت منطقة الشمال السوري ذات حساسية تركية، ومنطقة شرقي الفرات ذات حساسية أميركية (وعربية وكردية) فإن منطقة الجنوب على غايةٍ في الأهمية، وهي عرفت كذلك تاريخيا، فهي منطقة ذات حساسية إسرائيلية وأردنية (وأميركية وروسية أيضا). لذا من الصعب التكهن بطبيعة التداعيات التي قد تنشأ عن تطيير المصالحات التي اشتغلت عليها روسيا، مع وجود ثقلٍ مؤثر فيها للقوى الشعبية الثائرة ضد النظام، وفصائلها العسكرية المحلية. وحتى تاريخه، من غير المعروف مدى رضى روسيا عن تملص النظام من المصالحات التي عقدتها، وأدّت إلى تهدئة هذه الجبهة. ومن غير المعروف ما إذا كانت تصرّفات النظام ناشئة عن تنسيق مع روسيا، أم عن تبرّم الأسد من الاتفاقات التي عقدتها حليفته، وقلصت من صلاحياته، وقيدت بها مؤسسات النظام، وبخاصة الأمنية منها، في تعاملها مع الشعب. لذا في كل الحالات، ثمّة وضع جديد قد ينشأ نتيجة الصدامات المباشرة في تلك المنطقة بين النظام والمعارضة، وثمّة درس جديد لكيانات المعارضة بأن الذهاب إلى التفاوض مع النظام تحت مساراتٍ جانبية، ومنها أستانة، لا يخفّض فقط سقف الطموح، بل يلغي كل الحقوق مع جفاف حبره على الورق.

درعا اليوم وحيدة في مواجهة قصف النظام، تعتمد في صمودها على وحدتها الداخلية، كأهالٍ راغبين في تحقيق السلام لأبنائهم، واستمرار عملية استعادة بنيتهم التحتية بتعاضدهم ومن أموالهم، ودعم المغتربين منهم، وهم يقرأون من كتاب الحرية الذي كتبوه معاً في 18 مارس/ آذار 2011، ما يعني أن السلام ليس نقيضاً لحفظ كرامتهم، سواء كان خيارهم البقاء في بيوتهم، أو القبول بالتهجير الجماعي الذي تفرضه حرب النظام الغاشمة عليهم، ومع أي خيار لهم سيكونون قد قدّموا نموذجاً سوريّاً مشرّفاً عن الدفاع عن خيارات السلام التي تحفظ كرامات الناس وحقوقها.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا