درعا بين الخبث الروسي والضغط الإيراني

ماذا يعني الصمت الإقليمي والدولي عما يجري في درعا؟ هل هو إعلان نهاية القضية السورية، وتحوّل أحداثها إلى شأن محلي؟ وإذا كان الأمر كذلك، ألا يعني انتصارا جديدا لإيران بنزعها البعد القومي والدور الدولي للاعبين الكبار من القضية السورية؟

ليس الحديث هنا عن رمزية درعا في الثورة السورية، بل عن كونها باتت تجسّد المشكلة السورية، المتمثلة في رغبة غالبية السوريين في العيش بأمان وحماية من استباحة عصابة الأسد التي لم تعد تملك سوى العقاب بالموت لخصومها ومنتقديها، وتحتمي بروسيا وإيران، اللتين تتسابقان، في وضح النهار، على الاستحواذ على ما تبقى من الاقتصاد، في مقابل الولايات المتحدة تحت إدارة بايدن، والتي باتت مهمومة بحماية عناصرها في حقل العمر النفطي من ضربات مليشيات إيران.

تعاين روسيا، بصبر وتأنٍ، مدى قدرة درعا التي تموت تحت حصار الجوع وقذائف الفرقة الرابعة، على إثارة الشعورين، الإقليمي والدولي، وتحاول إخراجها من دائرة التأثير من دون أن تخلف أدنى أثر سلبي ممكن على سمعة روسيا، وتحاول إظهار المشكلة كمجرّد خلاف على تفاصيل تفاوضية بين طرفين، وأن دورها ينحصر في إدارة هذه المفاوضات، والتوصل إلى حلول وسط بين الفريقين، في انقلاب واضح على دورها ضامناً ساهم بالأصل في استعادة درعا لسيطرة نظام الأسد.

تشيع روسيا، عبر دبلوماسيتها، أنها غاضبة من الأسد في موضوع درعا، لتهدئة المشاعر وخواطر المتضرّرين من سياستها، وإسكات الناقدين لها. ولكن ليس سرّاً أن غضبها ينحصر في أن ماهر الأسد، الذي يقود الحرب على درعا، يريد للمدينة سحقاً مجلجلاً يليق بانتصاراته المزعومة على المؤامرة الكونية، ويطفئ نار حقده الملتهبة، في حين ترغب روسيا بإجراء عملية قتل على البارد.

الغريب أن هناك من يعتقد بوجود خلاف بين روسيا والنظام، ومن خلفه إيران، بشأن درعا، ويذهب هؤلاء إلى حد أن روسيا متفهّمة مطالب أهل درعا، بدليل أنها لم تتدخل عبر طيرانها لضرب الثوار الذين انقضّوا على حواجز النظام العسكرية ومقارّها في درعا، غير أن تدقيقا بسيطا في خريطة درعا يكشف استحالة استخدام روسيا طائراتها، وخصوصا في أرياف درعا الغربية والشمالية، أولا بالنظر إلى عدم وجود مواقع ثابتة للثوار ولا هياكل عسكرية واضحة. وبالتالي، ليس لدى روسيا بنك أهداف واضح كما كان في صيف 2018، وأي ضربةٍ ستوجهها في هذه المناطق ستصيب مواقع النظام. ثانياً، حتى في عام 2018 اقتصر عمل الطيران الروسي على أرياف درعا الشرقية، بسبب قرب أرياف درعا الشمالية والغربية من إسرائيل بدرجة كبيرة. ثالثاً، لا يمكن للطيران الروسي ضرب درعا البلد التي لا تتجاوز مساحتها كيلو مترات قليلة، وتضم عشرات الآلاف من السكان، إذ إن أي ضربة ستؤدّي إلى مجازر مهولة تضع روسيا في موقف محرج جداً أمام الرأي العام العالمي. الأهم من ذلك كله أن روسيا تفتقد الذريعة التي تتلطّى خلفها في استهداف درعا، التي لا توجد فيها قوى إسلامية متطرّفة، ولا حتى هياكل فصائلية واضحة، ويغلب على معارضتها العمل السلمي، كما جرى في رفض الانتخابات، أو الفزعة العشائرية كما جرى في الأحداث الأخيرة.

دفعت هذه المعوقات روسيا إلى الاستعانة بالمليشيات الإيرانية التي تشكّل الفرقة الرابعة رأس حربتها. ومنذ بداية الأزمة، هدّد الجنرال الروسي، أسد الله، باستجلاب المليشيات الإيرانية، إذا لم توافق اللجنة المركزية على تسليم السلاح الخفيف. وبالفعل، بعد تهديده بأيام قليلة بدأت المليشيات الإيرانية، اللواء “313” وكتائب الرضوان التابعة لحزب الله في حشد قواتها بشكل علني، والمساهمة في الطوق المضروب حول درعا البلد، ونشر أعداد إضافية في مواقع استراتيجية، وخصوصا التلال الإستراتيجية الحاكمة في درعا، كما أرسلت المليشيات العراقية، حسب مصادر المرصد السوري لحقوق الإنسان، من مواقعها في دير الزور، مؤازراتٍ إلى درعا لمساندة قوات النظام.

ولكن لماذا هذا الصمت الإقليمي والدولي على ما يجري في درعا؟ المشكلة في قضية درعا استحالة تحوّلها إلى مجرّد مسألة داخلية مغلقة، إذ ترغب إيران في تحويلها إلى منصّة لاختراق الأمن الخليجي. ولقائل أن يقول أن لدى إيران حدودا شاسعة مع العالم العربي، برّية وبحرية، وكل نقطة في تلك المساحة تصلح لأن تستخدمها إيران في تهديد الأمن العربي، لكن لدرعا خصوصية معينة، فهي بوابة سورية إلى العمق العربي، كما أن لسكانها علاقاتٍ قوية مع الأردن والخليج، بحكم النسب والمصاهرة ووجود أعداد كبيرة منهم في الخليج، وإيران ترغب في تحويل هؤلاء إلى رصاصات في بندقيتها عند التصويب على الخليج.

كما أن موقع درعا الملاصق للجولان، عبر أريافها الشمالية والغربية التي تتداخل، بشكل كبير، مع أرياف القنيطرة، والجزء المحتل من الجولان، يتيح لإيران منفذاً لمشاكسة إسرائيل، فهذه المنطقة، بخلاف جنوب لبنان، تملك عمقاً يمتد حتى حدود العراق، ما يجعل حركة مليشيات إيران أكثر سهولةً ويخفف العبء عن جنوب لبنان الذي لم يعد العمل فيه مريحاً نتيجة رفض شرائح كثيرة من المجتمع اللبناني استخدام إيران مناطقهم ورقة في مفاوضاتها مع الغرب.

لن يعود سقوط درعا بالضرر على أهلها وحدهم، بل سيفتح الباب أمام فصلٍ جديد من التنكيل بالعرب القاطنين خلف حدودها، وسيثبت انتصار النهج الروسي الذي لن يقبل بعد ذلك سوى تحويل سورية إلى جمهورية رقيق، طالما أطفأ العالم الأضواء على أزمتها.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا