روسيا تريد الأسد فرخاً

بالإمكان اليوم رسم خط مستقيم بين الإهانات الروسية للرئيس السوري بشار الأسد، انتهاء بالمقالات الروسية الأخيرة عنه وعن فساد العائلة والمسؤولين. هذه الإهانات المتتالية كقطار لا تنتهي مقطوراته، بدأت فصولها بحركة يد العسكري الروسي لدفع الأسد خلف “نظيره” الروسي فلاديمير بوتين في قاعدة “حميميم” في محافظة اللاذقية السورية في كانون الأول (ديسمبر) عام 2017. كانت تلك اللحظة تاريخية في رسم حجم الأسد على الأراضي السورية، في مقابل بوتين. لكن هذه المناسبة تحولت الى مسار بأسره، سيما مع إصرار الرئيس الروسي مطلع هذا العام على استقبال الأسد في مبنى السفارة الروسية في دمشق، وليس في مقر الرئاسة، وفقاً للبروتوكول.

محللون روس على علاقة بالكرملين رأوا حينها أن الإستقبال المهين لم يكن مؤشراً الى قناعة روسية بضرورة إبدال الأسد، بل كانت ضرورة “تأديبية”. هو صنف من لي الذراع. استدعى الرئيس الروسي رئيس سوريا الى غرفة في السفارة الروسية، وكأنه موظف فيها، لتذكيره بمن هو صاحب القرار الحقيقي، وبنوعية العلاقة الروسية-السورية. ليست العلاقة ندية، بل تبعية، وبالتالي فإن من الضروري الامتثال للسياسة الروسية في المحطات المفصلية.

كانت هذه الرسالة الروسية حينها، ولم تكن في طياتها إشارة إلى جدية في اطاحة الأسد وإبداله بشخصية أخرى، لأن من شأن ذلك نسف النظام بأسره ومعه الاستثمار الروسي فيه. لكن موسكو ترغب في المضي قدماً في العملية السياسية وجذب استثمارات عربية وربما أوروبية لتمويل إعادة الاعمار، بما يعود بالفائدة على الشركات الروسية. لذا ترتكز السياسة الروسية على إعادة لحمة العلاقات السورية-العربية، والتخفيف من وطأة النشاط الإيراني على الأراضي السورية، والاحتكاك مع إسرائيل عليها.

رغم حلفهما الموضعي عسكرياً، تسير روسيا وإيران في مسارين منفصلين حيال سوريا. موسكو تريد انهاء الحرب باتفاق سياسي يُرضي الجانب التركي، ومن ورائه العالم العربي وبعض أوروبا، والى حد أقل القوى الكردية المتحالفة مع الولايات المتحدة. لكم مثل هذا الاتفاق يحتاج الى تعديل دستوري يُوزع صلاحيات السلطة المركزية، وينقل بعضها من الرئاسة الى رئاسة الحكومة. لا يُمانع بوتين ممارسات الأسد من قصف للمدنيين والمستشفيات واستخدام للأسلحة المحظورة وسجن المعارضين وتعذيبهم واغتيالهم. بالعكس، مثل هذه الممارسات تُقرب بين الزعيمين ورصيدهما المشترك ولا تُبعد بينهما. لكن الفارق الوحيد هنا هو الليونة. ذلك أن بوتين نفسه لم يُمانع توزيع الأدوار بينه وبين ديمتري مدفديف لسنوات عديدة، بل لعب هذا الدور بإتقان واستمر فيه للإيحاء باحترام الدستور وبتبادل للسلطة.

في المقابل، لا يملك النظام السوري سلاح المناورة في هذا المجال. وهنا تبرز هوة سحيقة بين الرجلين. ليس بشار أصيلاً في منصبه، ولا حتى بالوراثة، بل هبط عليه بفعل حادث سيارة على طريق مطار دمشق قبل 26 عاماً. وبوتين المخضرم الذي سلك دروباً موحلة في الأمن والسياسة، يفقد صبره مع الأسد بعد خمس سنوات على التدخل الروسي. لهذا يلجأ الى وسائل غير تقليدية تتأرجح الى الآن بين الإهانة البروتوكولية والتوبيخ العلني.

مصدر آخر لإزعاج موسكو هو لجوء بشار الأسد الى حيل قديمة في كتب السياسة مثل اللعب على حبل التوازن الإيراني-الروسي الذي لم يعد مفيداً اليوم مع انتهاء الأعمال الحربية ووصولها الى الحد الأقصى المسموح به تركياً وأميركياً. وهذه الحركات البهلوانية استُهلكت، ولا يبدو أن لدى روسيا الغارقة في أزمتين صحية في ظل تفشي الكورونا (كوفيد-19) ومالية مع العقوبات وانهيار أسعار النفط، ترف الانتظار. تحتاج روسيا الى الخروج من أسر العقوبات، وبناء شبكة علاقات خارجية تُساعدها على تخطي محنتها المالية والاقتصادية التي قد تتحول الى تهديد وجودي لسلطة بوتين وإرثه السياسي.

لذا علينا قراءة الانتقادات الموجهة وغير الاعتيادية للرئيس الأسد مع أخذ عامل الزمن والأزمة في الاعتبار، لأن الدول الشمولية لا تفتح عادة نار الانتقادات على حليف لها في الإعلام. هذا سلاح غير عادي لزمن صعب. وبوتين الذي اغتال خصوماً ومنشقين بالسموم النووية والسيارات المفخخة، لن يرتدع عن التصعيد لو اقتضى الأمر. قد تكون هذه الانتقادات بمثابة نداء أخير للأسد: إمّا أن تتحول الى فرخ مطيع وحصري لدى رئيس الكرملين، وليس بالشراكة مع ايران، أو قد تُفاجئه روسيا بأسلحة أخرى في جعبتها.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا