سوريا.. ماذا وراء الكتمان؟

تكشف التحركات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، عن تفاوض سياسي واسع وعميق بين الأطراف الفاعلة، أحد محاوره الأساسية سوريا، لكن لا معلومات عما يجري. حتى أنه صار يبدو أن التحرز والكتمان هو أحد الأهداف الرئيسية لما يجري لحجب إمكانية حتى ظهور تكهنات أو توقعات. فماذا وراء هذا الكتمان ذاته، بعيداً من تفاصيل ما يُناقش خلف جدرانه؟

أول ما يمكن استنتاجه من عدم تسرب أي معلومات هو أن التفاوض محصور في دوائر عالية وضيقة جداً من صنّاع القرار، بحيث لم تنسلّ أي معلومة خارج تلك الدوائر وما تتداوله، وأن ما سينتج عن مداولاتهم سيتجاهل الرأي العام، أو يكون مخالفاً للتوجهات العامة للجمهور ومضاداً لها. ولتحاشي أي ضغوط محتملة في عصر وسائل التعبير الاجتماعي، فضل مديرو المطابخ السياسية اعلان خلاصة عملهم وفرضها على الجمهور كقرارات نهائية لا نقاش فيها.

مستوى الكتمان غير المسبوق، والذي يحيّد حتى قادة في المنطقة من الصف الأول، يشي برغبة في عدم إثارة انتباه أطراف ودول بعينها. فما يجري تصنيعه سيزعج أو يغضب أكثر من طرف، ويدفعه للسعي إلى تخريب ما يتم بناؤه، أو المشاغبة حوله على الأقل.

يدلل الإبهام والغموض أيضاً على ريبة الفاعلين في بعضهم البعض، وخشيتهم من أن تبوء أعمالهم بالإحباط نظراً لمراوغة هذا الطرف أو ذاك، وتلافياً للحرج الذي يخلفه رفع سقف التوقعات. فقد سدّ الباب تماماً أمام أي تسريب، إذ قد لا ينجم عن الجهود الحالية أي شيء ملموس.

ومن الواضح أن سوريا أحد أهم محاور العمل آنف الذكر، لكن رأس النظام تعمد إظهار تحركاته بطريقة مسرحية ليقدم نفسه في صورة مَن كُسرت عزلته، بل وأنه يعاد تعويمه بخطى متسارعة. لكن اعلاناته غير المباشرة لا تغير من الاستنتاجات السابقة، ما دامت الأطراف التي يتوقف عليها مصير المفاوضات ما زالت متمسكة بالسرية والحذر.

فالتفاوض مع قادة بعض الدول لصياغة الخطوط الرئيسية لحل أو مبادرة في سوريا، لم تدخل كما يبدو مرحلة النضج بعد، ولم يجر الدخول في تفاصيلها المعقدة والعويصة التي لا بد من التشاور فيها مع آخرين، وقد لا يجري ذلك إطلاقاً. لكن رأس النظام، الذي يحرص على انتهاز كل سانحة للقول لجمهوره أنه بخير، وقهر وتحطيم معنويات معارضيه بما مؤداه أنه انتصر عليهم، يحاول أن يستغل فسحة التفاوض دعائياً إلى أقصى ما يمكن.

تجري المفاوضات السورية على الأغلب بعيداً من رضا بعض الأطراف، وربما ضد مصالحها بعضها. فالولايات المتحدة التي لا بد أن توضع في صورة ما يجري، لم تكتف بالصمت، بل أكدت عدم رضاها عن هذه الجهود في العلن. أما في السر فإن الدبلوماسية الأميركية تلتزم في مثل هذه الحالات بقاعدة “دعهم يعملون ودعنا نرى”، فإن أعجبت النتائج واشنطن، أقرّتها، وإن لم تعجبها فلن يصعب عليها إلغاؤها أو تقويضها.

يلوح لنا أيضاً من خلال تأجيل أو نسف مسار التقارب بين النظام السوري وتركيا، أن ما يجري الإعداد له من قبل بعض العرب وروسيا والصين، ضد المصالح الحيوية لأنقرة، بل ربما كان ينبني جوهرياً على التناقض معها. وتركيا لاعب رئيسي في المشهد السوري، والكتمان وحده لن يعفي صفقة محتملة تتجاهلها، من معارضتها الشديدة. وفي النهاية، لدى أنقرة أوراق عسكرية وسياسية كافية لقلب الطاولة رأساً على عقب في سوريا، ناهيك عن موقف إيران التي يحتمل أن يكون تحجيم وجودها في سوريا شرطاً أساسياً لتمرير صفقة ما، إذا لم يكن من جانب العرب، فمن جانب إسرائيل والولايات المتحدة.

لمصداقية نظام الأسد وإيران معاً، دور أيضاً في السرية المبالغ فيها التي تحاط بها التحركات الحالية. فالثقة معدومة في كليهما، والجميع واثق بأنهما لن تفيا بأي وعود بعد نيل المراد، وهو تعويم النظام عربياً على الأقل، وأن استمرار أي اتفاق سيُبنى على الابتزاز الدائم للأطراف التي تورطت في الصفقة وتحت التهديد المستمر بالنكوص عنها ما لم تتم تلبية طلبات النظام التي ستتصاعد. لذلك تتأنى الأطراف التي ستتحمل عبء الفشل، في الإعلان عن نواياها أو إبداء الحماس، للضغط على طاولة التفاوض وانتزاع تعهدات ملزمة، وتلافي عقابيل فشل التفاوض أو فيتو أميركياً محتملاً.

عاجلاً أم آجلاً، سيتضح فحوى ما يجري منذ شهور في الخفاء، ومهما كان ما سيُتفق عليه فإننا نستطيع أن نتنبأ بأنه سيواجه مشاكل جمة في التطبيق. وهو يشبه من حيث الشكل اتفاقاً مؤقتاً لإطلاق النار لا أكثر، لأنه لن يأخذ مصالح جميع الأطراف المتصادمة والمتعارضة بعين الاعتبار، وهذه مهمة شبه مستحيلة أصلاً في الحالة السورية. وأن تجري المفاوضات بسرّية، لا يعني نجاحها على مبدأ “استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان”. بل إن هذا الاسراف في التكتم ما هو سوى موارة للشك وعدم اليقين، ودفع مسبق لمشاعر الندم الواقع لا محالة عندما يضع المرء ثقته في خائن شعبه.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا