عشرية الأسد الجديدة:سوريون في شاحنات البضائع!

فيما كان رأس النظام السوري، بشار الأسد، يتحدث عن معركته مع “سعر الصرف”، كانت “معارك” حقيقية، مُصغّرة، تندلع في أحياء متفرقة من العاصمة دمشق. وهذا التوصيف ليس مجازياً للغاية. ذلك أنه خلال محاضرة الأسد أمام مجلس وزرائه، سُجل في العاصمة دمشق، اشتباكات بالعصي، وبالأسلحة البيضاء، أمام محطات وقود. اشترك في اثنتين أو ثلاثة منها على الأقل، عناصر من ميليشيا الدفاع الوطني والشرطة وعناصر أمنية، ليس لضبط طوابير المنتظرين أمام المحطات، بل للتصارع على الوقود الشحيح المتاح بأسعار مدعومة هناك. فيما حلّق سعر البنزين في السوق السوداء بشكل هائل، بالتزامن مع نقل صور مأساوية لأزمات نقل، احتشد فيها الآلاف إما تحت “جسر الرئيس” أو قرب “جسر الثورة” بالعاصمة، بانتظار أي وسيلة نقل يمكن لها أن تقلهم إلى الضواحي، بعد انتهاء أوقات عملهم.

وكانت من أسوأ الصور التي نشرتها إحدى الصفحات المحلية على “فيسبوك”، تلك القادمة من مدينة حلب، حيث يركب عشرات السوريين في شاحنات لنقل البضائع، ويزدحمون فيها في مشهدٍ يعزّ على أحد، مشاهدته.

في ظل هذه الظروف، ربما لم يستمع الكثيرون من السوريين القابعين تحت سيطرة النظام، لخطاب بشار الأسد. وقد يكون أغلبهم، لم يسعفه الوقت، ولم يحظ بظروف مناسبة، كي يتمعّن بما تضمنه هذا الكلام من رسائل. فهو أراد أن يخبرهم، وبكل صراحة، أن مسلسل المعارك الذي يخوضه، باسمهم، مستمر. ذلك هو باختصار، شعاره، في حملته الانتخابية، التي قد تنطلق قريباً، أو قد لا تنطلق أساساً. لا يعني السوريّ المنشغل بتوفير الحد الأدنى من مقومات البقاء على قيد الحياة،  تلك التفاصيل. فهو يعلم جيداً، أنه على الهامش، ولا قيمة لصوته، الذي قد يُطلب منه الإدلاء به لترسيم وضعٍ قائمٍ على أرض الواقع، أو قد لا يُطلب منه ذلك. ففي نهاية المطاف، الأمر محسوم.

وفي هذه الأجواء، تأتي رسالة جديدة من موسكو، موجهة لجهات عديدة، أحدها بشار الأسد، علّه يقدّم ولو تنازلاً طفيفاً في الاجتماع المرتقب للجنة الدستورية. فوزير خارجيتها قال بصراحة، إن نظام الأسد –الذي وصفه بـ “الدولة”- قد ينهار تحت وطأة جمود الوضع الراهن على حاله. تلك الرسالة تستهدف جهات أخرى دون شك، أحدها إسرائيل، فانهيار الأسد، قد يعني انفلات “التطرف” الذي تخشاه، والذي، خشيةً منه، فضّلت الأسد على مدى زمني يقرب من عقدين، كما كشفت المراجعات والنقاشات التي نُشرت في وسائل إعلام عبرية، في الفترة الأخيرة.

أما الأسد، ذاته، فلا يعنيه التحذير الروسي. فهو مستمر في معاركه. آخر تلك المعارك، مع سعر الصرف، حقق فيها بعض “الإنجازات”، فهو استطاع، عبر المؤسسات الخاضعة لسيطرته، تخفيض الدولار الأمريكي من 4700 إلى 3600 ليرة سورية. هذا “الإنجاز”، الذي تبجح به الأسد أمام وزرائه، كان قبل شهرين فقط، هزيمة كبرى. قبل شهرين فقط، كان الدولار بـ 2920 ليرة. وهكذا، في عُرف الأسد، تتحول الهزيمة إلى “إنجاز” خلال شهرين فقط. أما أن يرفع التجار أسعار السلع على وقع سعر الصرف، فتلك “لصوصية” حسب فهم الأسد. من دون أن يسأل نفسه: كيف سيموّل التاجر شراء بضاعة جديدة بسعر مرتفع، إن باع بسعر منخفض؟ الجواب على هذا التساؤل، الذي لم يطرحه الأسد أساساً، رُصد في دمشق، خلال الأيام الفائتة، بشكل إضراب جزئي في بعض الأسواق، ليس تمرداً ضد النظام، بل عجزاً عن الاستمرار في دورة الحياة التجارية، بسبب التذبذب الكارثي لسعر الصرف، وعجز القدرة الشرائية للسوريين عن البقاء على قيد الحياة. فانهار الطلب على السلع، ومعه، تكاد تنهار التجارة تماماً في إحدى أعرق المدن التجارية في العالم.

تلك الصورة المأساوية في سوريا، لا تعني الأسد بشيء، ما دامت لم تتحول إلى احتجاج يهدد كرسي حكمه. فابن النظام الذي عُرف بالرهان “الاستراتيجي” على الوقت، ينتظر المدد الصيني عبر الحليف الإيراني. ولا يعني الأسد أن تندلع حرب باردة في المنطقة، بين الصينيين والأمريكيين، يكون بلده إحدى ساحاتها. بل على العكس، قد يفيده ذلك، فهو وعمود نظامه الفقري، يتقنون الاستفادة من الأزمات والحروب. بل وينعشهم اقتصاد الحروب. فشقيقه ماهر، أفاد كثيراً من العشرية السابقة، فتحولت فرقته الرابعة إلى وكيل معابر تهريب، وحواجز ترفيق، و”بزنس” مربح للغاية من تجربة “التعفيش”. أما الأسد ذاته، فأتقن إدارة وتقسيم الأدوار، ورفع وكلاء له، ونال من آخرين، بصورة تضمن له البقاء كأقوى أمير حرب في سوريا.

في هذه الأثناء، يعيش السوريون تجربة جديدة مريرة، قد تكون أسوأ ما عاشوه حتى اليوم. فحشرهم في شاحنات البضائع قد يتحول في عشرية أخرى من تاريخ سوريا، لو استمر حكم الأسد، إلى واقعٍ يمكن التطبيع معه. هذا هو رهان النظام. وهو ما قاله الأسد صراحةً، أن على “المواطن” أن يقف مع “مؤسسات الدولة” في حربها الجديدة. وذلك بانتظار “الفرج”، سواء جاء من الصين، أو من إسرائيل نفسها، التي عليها أن تستمر بالخشية من بديل الأسد، وفق الرسالة الروسية الأخيرة.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا