على أعتاب السنة السابعة للتدخل الروسي في سوريا

في الثلاثين من أيلول سبتمبر الجاري يُكمل التدخل الروسي في سوريا سنته السادسة، وفي حساب أعمار الشعوب والدول ليس هذا بالرقم الكبير، فالاحتلال الفرنسي للجزائر دام 132 سنة، فبدأ في 5 من تموز يوليو 1830 وانتهى في 5 من الشهر ذاته عام 1962. لكنّ الأمور اختلفت كثيراً في الزمن الراهن عمّا مضى، فاليوم، وفّرت الثورة التكنولوجية العظيمة حصيلة معرفية ضخمة ومخزوناً معلوماتياً هائلا، جعلت منجزات البشر تُحسب بالأيام لا بالأعوام مقارنة بعقود خلت من عمر البشرية. وفي هذا المجال يمكن القول إنّ ما مرّ على سوريا من أحداث خلال السنوات العشر المنصرمة، قد يزيد على ما مرّ بها خلال قرن كامل من بدء التأسيس الأول. فماذا كانت نتائج هذا التدخل الروسي، وماذا حصدت هي من ذلك، وما هي النتائج على الصعيد السوري؟

الحقيقة أنّ روسيا الاتحادية عادت للحضور وبقوّة على الساحة الدولية، وكانت سوريا إحدى أهمّ البوابات التي ولجت منها عصر ما بعد انتهاء مرحلة القطب الأميركي الأوحد. فمن البوابة السورية استطاعت تحطيم الرقم القياسي لاستخدام الفيتو في مجلس الأمن بشأن قضيّة واحدة، مما يؤشّر على مدى أهمّية الملف السوري في الاستراتيجية الروسية. كذلك فعّلت دورها في مناطق آسيا الوسطى من خلال المقايضات مع تركيا في ملفات الصراع بين أذربيجان وأرمينيا من البوابة السورية. استثمرت حضورها السوري في الملف الليبي أيضاً، من خلال تأمين مقاتلين مرتزقة لحماية المنشآت النفطية. لكنّ الاستثمار الأكبر كان في طرح أسهمها للتسويق مجدداً كحليف موثوق لا يتخلّى عن حلفائه كما تفعل الولايات المتحدة الأميركية، فالمقارنة واضحة بين الموقف الروسي من دعم بشار الأسد، والموقف الأميركي الذي تخلى عن زين العابدين بن علي وعن حسني مبارك.

تحاول روسيا العودة بقوّة إلى شمال أفريقيا من خلال البوابتين المصرية والسودانية، كما تحاول إحداث اختراق حقيقي في العلاقة مع دول الخليج العربي، مستغلّة الفراغ المعنوي وفقدان الثقة اللذين أورثهما الانسحاب الأميركي من أفغانستان. قد يربك تعقيد الموقف في تلك المنطقة الحسابات الروسية، خاصّة وأنّ اللاعبين الإقليميين مثل باكستان وإيران واللاعبين الدوليين مثل الهند والصين، قد تغيّرت مواقفهم ومصالحهم عمّا كانت عليه عشيّة التدخل السوفييتي في ذلك البلد عام 1979. لا تفوّت القيادة الروسيّة فرصة إلا وتستغلّها لإثبات وجودها في أيّة ساحة صراع مع الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، هذا ما شهدناه في فنزويلا عندما وقفت بقوّة خلف الرئيس نيكولاس مادورو بمواجهة زعيم المعارضة خوان غوايدو. والحقيقة أنّ التدخّل في سوريا، والعنف الرهيب الذي مارسته ضدّ الفصائل العسكرية المعارضة لنظام الأسد، والوحشية السافرة في قصف المنشآت المدنية من مشافٍ ومدارس ومراكز الدفاع المدني، جعل هذا كلّه روسيا تعيد إلى أذهان العالم هيبة الاتحاد السوفييتي السابق، مجسّداً بشخص فلاديمير بوتين رئيساً صلباً مثل جوزيف ستالين.

أمّا على الجهة السورية، فماذا كان الحصاد، وهل ساعد التدخّل الروسي الشعب السوري من حيث النتيجة، أم حفظ وحدة التراب السوري وحافظ على مؤسسات الدولة السورية، كما كانت شعارات القيادة الروسية تعلن أهدافها من التدخّل؟

الواقع يقول إنّ المستفيد الأكبر هو النظام الأمني العسكري الديكتاتوري في سوريا ورأسه بشار الأسد. لقد ثبّت الروس حليفهم بالقوّة العسكرية العارية وبقوّة الدبلوماسيّة في مجلس الأمن وبقوّة السياسة في اختراق العلاقات الدولية لصالحه. وباعتبار أنّ نظام الأسد لا يعمل وفق أية قواعد خارج حماية ذاته ورأسه، فإنّه لا يجد غضاضة في الانهيار الاقتصادي أو في دمار البنى التحتية للدولة أو في تهجير السكان، ولا قيمة لانهيار النظام الصحي أو نظام التعليم، ولا قيمة لانعدام القدرة على تأمين أيّ من الخدمات الأساسية للسكان بما فيهم الموالون له بشدّة. ولا أهمّية لاقتطاع أجزاء كبيرة من أراضي الدولة لصالح قوى أمر واقعٍ محلية، أو لصالح جيوش وميليشيات أجنبية، كذلك لا قيمة لانتقاص السيادة السورية على أرض أو سماء البلاد من قبل إسرائيل أو غيرها. ما دام النظام قائماً وقادراً على إعادة إنتاج نفسه، فلا قيمة لأي شيء آخر في سوريا الأسد، وهذا ما حققه التدخّل الروسي بكلّ وضوح.

باتت سوريا الآن أقرب إلى الدولة الفاشلة، فقد انهار المجتمع السوري وتشرذم، وانهارت الدولة وتفتّتت، لكنّ النظام نجا، بل بات أكثر قوّة مما كان عليه قبل الثورة. والآن، وبسبب الحاجة الإقليمية لأي نوعٍ من أنواع الاستقرار، فإنّ معادلة إعادة تدوير النظام جاريةٌ على قدمٍ وساق. وقد يكون من مصلحة جميع أنظمة المنطقة بقاء هذا النظام بدل تغييره. سيكون أيّ نظام عربي أو إقليمي بمنزلة حَمَلٍ وديعٍ مقارنة بنظام الأسد، وهذا سيعطي شعوب هذه الدول من جهة، وساسة الدول الأخرى من جهة ثانية، دروساً وعبراً في الواقعيّة البراغماتية ولو على حساب ملايين البشر.

من قال إنّ الظلم والطغيان سيندحران في النهاية لأنّهما باطل، ومن قال بأنّ الخير والجمال سينتصران أخيراً لأنّهما حق؟ هذا ما نراه في أفلام هوليود وبوليود وليس في الحياة البشرية الواقعية. استطاع الزعيم (الكويدلو) فرانكو أن يهزم خصومه الجمهوريين وأن يبقى في سدّة الحكم الفعلي منذ انقلابه عام 1936 وحتى وفاته عام 1975 رغم ما ارتكبه من جرائم وموبقات يندى لها جبين البشرية. كذلك كانت سيرة ستالين وبينوشيه، وأقرب مثال لنا حافظ الأسد، حيثُ نُقل جثمانه على عربة مدفع عسكري كأيّ بطلٍ قومي أو فاتحٍ مقدّس، رغم ما أذاقه للسوريين من مرارة وظلم وإجرامٍ خلال ثلاثين عاماً من حكمه.

الخلاصة أنّ التاريخ لا يسير دائماً إلى الأمام، وأنّ سعادة البشر ليست من مفردات هذا التاريخ، وأنّ الصواب والجمال والخير، قيمٌ أخلاقية لا تحمل في ذاتها شروط سيادتها لأنها كذلك، بل لا بدّ من توفّر عوامل خارجية تسمح لها بالتحقق.

والآن، ونحن على أعتاب العام السابع للتدخل الروسي في بلادنا، أما آن الأوان لخلق مقاربات جديدة للعمل، أما آن الأوان لإبداع آليات جديدة للتعامل مع الواقع، أما آن الأوان للبدء بعمليّة تغيير حقيقيّة واضحة في العقلية والنفسية والعمل الوطني والسياسي، أم سننتظر انتصارنا التلقائي لاعتقادنا الساذج أنّنا على حق وخصومنا على باطل؟

المصدر تلفزيون سوريا


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا