عن المطلبية والمحلية في احتجاجات السويداء

أعادت المظاهرات التي شهدتها، أخيرا، محافظة السويداء في سورية، الحديث عن موضوع جدوى الاحتجاج المطلبي المعيشي وقيمته، وموضوع الأقليات وخلفيات انحيازاتها السياسية على مسار أكثر من عقد من الصراع المحتدم بعد اندلاع الثورة السورية. ويمكن ملاحظة سمتين عامتين في احتجاجات أهل السويداء: غلبة الطابع المطلبي على موجات الاحتجاج، والذي لخصه أهل السويداء بعبارة “بدنا نعيش” منذ حوالي سنتين. وبروز معالم محلية على الحراك، مثل رفع الراية المذهبية. وكل من هاتين السمتين كانت محلّ نقد واستهجان من عدد غير قليل من السوريين.

يمكن أن يجادل مراقبون في أن الاحتجاجات كانت سياسيةً أكثر منها مطلبية، لأنها طالبت بالكرامة والعدالة وبدولة مدنية وبإسقاط النظام .. إلخ، وأن يجادلوا في أن الكلام عن بروز ملامح محلية غير دقيق أو مبالغ فيه، وأن المحتجين رفعوا لافتاتٍ تقول “هنا السويداء، هنا سورية”. هذا كلام صحيح أيضاً، لكن ما يهم هذا المقال مناقشة هذين الملمحيْن الحاضريْن، بصرف النظر عن نسبة حضورهما في هذه الاحتجاجات، على أن ملاحظتنا تقول إن هذا الحضور هو من القوة بما يكفي للحديث فيه.

تدلّ المطلبية الظاهرة في احتجاجات السويداء، في الواقع، على العمق الشعبي لها، أي على أنها تتحرّك بدافع الحاجات المباشرة للناس أكثر مما تتحرّك بدفع من نخبة ذات أهداف سياسية، وهذا ما يُحسب لها وليس عليها. وإذا كان ثمّة نخبة لها دور في التنظيم أو الدعوة، فإن هذه النخبة اختارت المطلبية التي تلامس الهموم الاقتصادية المباشرة للناس، والتي باتت ثقيلة وباهظة في كل مكان من سورية، أي إنها عنصر توحيد بين السوريين.

من المفهوم أن قرار رفع الدعم عن شرائح من السوريين جاء تحت ضغط الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعيشها طغمة الأسد، وأن من شأن هذا القرار توفير بعض الموارد للسلطة، على حساب الحاجات الأساسية للناس، كي تصرفها في تمويل استمرارها في الحكم، سواء لجهة رشوة خدم السلطة بالفساد، أو تمويل التسلح والمليشيات أو حملات التلميع الإعلامي الموجه إلى الخارج، الذي تبرع به مؤسسات غربية تعتاش على هذا النوع من الأنشطة، كما سبق أن كشف الصحافي الأميركي، سام داغر، في كتابه “الأسد أو نحرق البلد”.

الخروج إلى الشارع اليوم للمطالبة بإسقاط النظام لا يؤلم النظام ولا يحرجه، في الحقيقة، بالقدر الذي تؤلمه وتحرجه المطالبة بالخبز والحاجات الأساسية. وصل الصراع ضد طغمة الأسد في سورية، بعد هذا المسار الطويل والمعقد والمتداخل، إلى لحظةٍ باتت المطالب الجذرية قليلة الفاعلية في زعزعة تماسك النظام وزيادة عزلته عالمياً. ولا سيما أن جمهور الاحتجاجات قليل ومحصور، وأن الاحتجاجات لا تشكل منطلقاً لموجه احتجاج تضامني شاملة، كما كان الحال في منطلق الثورة.

الأزمة الاقتصادية العامة في سورية اليوم، والتي اعتدتْ على أساسيات حياة الناس، يمكن أن تشكل أساساً مناسباً ودافعا لاحتجاجات مطلبية تجمع المحكومين السوريين بصرف النظر عن أماكنهم وانحيازاتهم السياسية أو عن طريقة فهمهم لما جرى ويجري أو عن مرجعياتهم الفكرية وشكل استيعابهم للعالم أو شكل الحكم الذي يريدون. قد تكون المطلبية هي العلاج “الداخلي” الأنسب للانقسام السياسي السوري العصي على العلاج الداخلي، بعد أن بات هذا الانقسام عميقاً ومترسّماً على شكل سلطات أمر واقع، تتعادى وتتساند في عدائها المتبادل. ما يجعل غالبية محكومي الجولاني يسكتون على تسلط هيئة تحرير الشام في إدلب ويكبسون الجرح ملحا، هو خوفهم من عودة طغمة الأسد إلى حكمهم، وكذا الحال فيما يخص المحكومين في مناطق طغمة الأسد الذين يرون أن هناك ما هو أفظع مما هم فيه إذا حكمهم الإسلاميون. كما أن مستوى العداء وانعدام الثقة بين السوريين الكرد والفصائل السورية التابعة لتركيا يصعب تجاوزه، طالما استمرّت هذه السلطات المسيطرة في هذه المناطق. على هذا، يبدو أن استمرار حكم طغمة الأسد يشكل سنداً لطغمة الجولاني، والعكس صحيح، أي إن وجود التهديد بحكم إسلامي يشكّل اليوم سنداً لطغمة الأسد، كما يشكل التهديد بعودة حكم الأسد سنداً لحكم الإسلاميين.

من الواضح أنه في وضعٍ على هذا القدر من الانقسام السياسي في البلد، يكون الأمل باستعادة الوحدة السياسية، نقصد الدولة الواحدة، مستبعداً من دون دور أممي فاعل، له القدرة على فرض ذاته على السلطات السورية الموزّعة (القديم منها والمستجدّ) التي تبلورت اليوم في سورية، حتى لو اتخذ هذا الدور الأممي شكل الوصاية.

وفيما يخص الملامح المحلية، يمكن ملاحظة خوفٍ مبالغ فيه على الرابطة الوطنية السورية لدى كثيرين مهتمين بالشأن العام في سورية، تجعل لديهم حساسية خاصة تجاه ظهور أي رابطة محلية على السطح. ويبدو هذا الأمر دليلاً على اعتلال وطني أكثر منه على معافاة، ذلك لأن ما يبرّر هذا الخوف هشاشة الرابطة الوطنية السورية وضعف الثقة بمتانتها. وقد اعتدنا أن تعني الرابطة الوطنية السورية قمع الروابط الأخرى، بدلاً من أن تكون إطاراً جامعاً يحتضن الروابط كلها بقدر ما يتغذّى منها.

لا يبدو لكاتب هذه المقالة أن في رفع البيرق المذهبي في احتجاجات السويداء ما يقلل من بعدها الوطني، وقد يكون العكس أقرب إلى الصحة، فللبيرق قيمة خاصة لدى أهالي السويداء كما لكل جماعة سورية رموزها الخاصة التي تحترمها وتحقق لها حاجة الشعور بالانتماء الصغير ضمن الانتماء الأكبر. هكذا هو الحال في كل مكان، يمكن الكلام فيه عن وطنية ديمقراطية، وليس عن وطنية تحرسها التابوهات السياسية والأعلام الوطنية وصور الرئيس في كل مكان وكل مكتب. وطنية كهذه الأخيرة عليلة ومحمولة على القمع، وهي إذًا شكلية ومرشّحة للانهيار ما أن تنكسر قليلاً سطوة الدولة “الوطنية”. .. في فرنسا، مثلاً، يوجد لكل منطقة وحتى لكل بلدية رمزها الخاص الذي تراه على آليات ومبنى البلدية، من دون أن ينتقص هذا من وطنيتها، ولعل العكس أصح.

يبدو أن موجات الاحتجاج في السويداء تشكل في مطالبها ما يقلق طغمة الأسد ويهدّدها أكثر من المطالب السياسية، وأن الملامح المحلية لا تتعارض مع الرابطة الوطنية السورية، ولعلها تعزّزها، وأن خروج احتجاجات مشابهة في مناطق أخرى تحت سيطرة طغمة الأسد احتمال قائم، ويمكن أن يعيد الصراع إلى محوره الأساس بين مصالح الناس المباشرة ومصلحة طغمة الحكم، وأن يستعيد الصراع الذي تحوّل في بازار السياسة الإقليمية والدولية إلى وسيلة في صراعاتٍ أوسع لا تعبأ بمصالح السوريين.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا