عن تأكيد نجاعة الأدوار المحلية في سورية

دائماً ما يفاجئنا المجتمع المحلي في البلدان الغنية أو الفقيرة، بابتكار حلول لأزمات ومشاكل يعاني منها بعد حدوث أزمة مالية أو كارثة طبيعية أو حرب أو ظروف معيشية قاسية.
فقد ابتكر مجموعة من الشبان أداة مالية جديدة للخروج من الأزمة المالية التي اجتاحت أمريكا والعالم سنة 2008 وإقدام الشركات على تسريح آلاف الموظفين والعمال، تقوم هذه الأداة على التموبل التشاركي أو الجماعي بعيداً عن المنظومة المصرفية التي رفضت استقبال شباب عاطلين عن العمل ولا يملكون ملاءة مالية تؤهلهم للحصول على تمويل، لم تمضِ أشهر حتى تأسست مئات منصّات التمويل الجماعي في أمريكا وانتشرت التجربة إلى العالم، وتهافت الشباب أفراداً ومجموعات لعرض أفكارهم على تلك المنصات، ولم يجد المشرّع بُدّاً إلا بلحاق ركب المجتمع وتنظيم هذا القطاع الجديد في الأسواق المالية وتفنيد قوانين لتنظيم عمله.

يمتلك أي مجتمع إمكانات كامنة لإنتاج احتياجاته وتشغيل السكان شريطة أن يتجاوز عتبة الأمان الضرورية للعمل والإنتاج، وتختلف طريقة توظيف تلك الإمكانات بين مجتمع وآخر، على سبيل المثال احتاج المجتمع الفقير في بنغلاديش إلى تطبيق نموذج خاص به قائم على تقديم قروض متناهية الصغر للفقراء بشروط يسيرة جداً، عبر بنك “غرامين” الذي أعطاهم فرصة منعتها عنهم البنوك الأخرى بذريعة عدم امتلاك ملاءة مالية، ونجح صاحب الفكرة محمد يونس في تصدير هذه التجربة للعالم، وبلغ عدد فروع البنك أكثر من 2600 فرع في بنتغلاديش في العام 2017، وقدّر عدد المقترضين أكثر من تسعة ملايين مُقتـرض، بمعدلات استرداد مرتفعة تتراوح ما بين 97% و99.6%.

هناك العديد من الأمثلة عن بلدان قدمت مجتمعاتها المحلية نماذج جيدة يمكن الاتعاض بها بعد الأزمات المالية أو في ظل ظروف سياسية واقتصادية سيئة، ولعلّ المثالين السابقين من دولة غنية تتربع على عرش الاقتصاد العالمي ودولة فقيرة تقع ضحية المجاعات والفيضانات، يفيان بالغرض في هذا المقام.

من بين أفضل حسنات النظام الرأسمالي؛ إعطاء مطلق الحرية للأفراد والأسواق لإيجاد حلول لأزماتهم ومشاكلهم المعيشية، وأجدني منجذب أكثر نحو ذلك المجتمع الذي يعتمد أفراده على أنفسهم لا في عملية الإنتاج وحسب بل لأبعد مدى ممكن، للحد الذي يقوم السكان بتنظيف أحياء بلداتهم ومدنهم إذا كانت متسخة دون انتظار أحد للقيام بهذه المهمة، ويؤمّن الآلية المناسبة لتعليم الأطفال في المنازل إذا كانت المدارس مهدمة وضمان عدم تسربهم من التعليم، وقيام مجموعة من الأشخاص المقتدرين تأمين خدمات المياه والكهرباء والاتصالات. سيوجد السكان الطريقة المناسبة لتحريك العجلة الاقتصادية وإنتاج المنتجات وخلق فرص العمل من خلال تأسيس التعاونيات والشركات من أموال السكان المتوفرة بالأخص مع انتشار التقنية الحديثة وتخديم سلاسل القيمة المضافة وإمكانية العمل عن بعد.

في سورية التي جرّتها الحرب المستمرة منذ عشر سنوات إلى ظروف اقتصادية سيئة، وقسّمتها لعدة مناطق أحدها تحت سيطرة النظام ويدير الموارد بطريقة استبدادية بحيث لا يُسمح لأحد بالتدخل وإيجاد الحلول، ومنطقة شمال شرقي نهر الفرات تحت سيطرة “الإدارة الذاتية” والتي تدير الاقتصاد وفق مبادئ اشتراكية (شمولية)، فيما تتمتع مناطق المعارضة غرب الفرات بهامش حرية نسبي يسمح للسكان بإيجاد حلول وابتكار أدوات مقارنة مع المنطقتين الأخريين، واليوم بعد سنوات من الاستقرار النسبي ودخول المنطقة في غمار التعافي المبكر وأمام تجميد القرارات الدولية ذات الشأن في الملف السوري؛ باتت الفرصة مواتية أكثر أمام السكان للتفكير بابتكار نموذج اقتصادي يتلائم مع الظروف التي يمرون بها ويعتمدون على التقنية الحديثة للتخفيف من وطأة الأزمات المعيشية.

وللإشارة إلى جملة من المشاريع التي تم تنفيذها خلال السنوات الثلاث الماضية فقد تمكنت المنظمات من العمل في ظروف صعبة وتخديم السكان والنازحين في مختلف القطاعات الاقتصادية، ولا يسع المجتمع المحلي اليوم إلا إطلاق يد الشباب وتبني مبادراتهم وتمويل مشاريعهم، ومن بين المشاريع الكثيرة الملفتة للانتباه، ما تقوم به مؤسسة “وايت رووم” التي أعادت تصميم وترميم ساحات وأسواق وشوارع في مدينة إدلب بطريقة جميلة بتمويل من تجار تلك الأسواق، ومن شأن نقل هذه المبادرة إلى المجال الصناعي بحيث يساهم التجار والصنّاع في تمويل مصانع ومعامل تنتج احتياجات المجتمع عوضاً عن استيرادها وتباع بأسعار معقولة.

وفي قطاع التمويل تعد شركة “ديجيت بنك” العاملة في جرابلس فكرة رائدة تسهم في حماية أموال الأفراد وسهولة تحويلها وتقدم خدمة شراء المنتجات من محال تجارية محددة باستخدام المحفظة الالكترونية، وتعد رواج هذا النوع من الأعمال إلى تطوير البيئة المالية وتسهيل عمليات الدفع والتقابض. فيما قامت العديد من المنظمات بتركيب ألواح الطاقة الشمسية لتوليد الكهرباء وإنارة الشوارع والمخيمات وتشغيل مضخات المياه وبعض المؤسسات، ويشكل توسيع نطاق العمل في هذا المضمار دخول شركات في الطاقة المتجددة وتوليد كهرباء تكفي حاجة المنازل والمصانع.

سورية ليست أول بلد يتعرض إلى حرب شرسة، وليست الأخيرة، لم تُسعف الإغاثة والمساعدات الإنسانية مجتمعاً فيما مضى رغم ضرورة الإغاثة في مرحلة يفترض بها أن تكون قصيرة، وحالما يحل أمان نسبي على السكان بناء نموذجهم الخاص في الانطلاق وتعمير ما هدمته الحرب، وإعادة تحريك العجلة الاقتصادية، وهو ما يحتاج إلى مبادرات من المجتمع المحلي جنباً إلى جنب مع تهيئة بيئة حاضنة للافكار التنموية وتبنيها وتقديم الدعم لها.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا