في استعانة بوتين بالمرتزقة

منذ الأيام الأولى لحربه في أوكرانيا، أدرك الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أنّه كان ضحية المافيات التي صنعها حوله، في الجيش والاستخبارات والقطاع المالي، فهذا الرجل، المعزول والمتعالي على من حوله، جرت من تحت كرسيه في الكرملين، وقصره المنعزل في سوتشي، مياه كثيرة، أتاحت سخونة حرب أوكرانيا إدراك حجم برودتها.

على مدار سنوات، تغنّت آلة الإعلام الروسية بالتطورات الهائلة في بنية الجيش وبرامج تطويره وتحديثه ليواكب الحروب الحديثة، على المستوى التقني، صناعة الأسلحة، أو على مستوى تأهيل الكوادر وتدريبها على خوض الحروب في مختلف الظروف والبيئات. في الوقت نفسه، كان جهاز الاستخبارات الروسي يقدّم لبوتين إنجازاته في ملاحقة المعارضين والحرب السيبرانية التي يشنّها على خصومه الدوليين.

شكّلت هذه المعطيات التي جرى تصنيعها، في الغالب، أساساً للتقديرات التي بناها بوتين لحربه على أوكرانيا، والتي ارتكزت على فرضيات بسيطة ذات النتائج الإيجابية لبوتين، مثل أنّ المعركة ستكون سريعة وبخسائر محدودة، أنّ الجيش الأوكراني سينهار بسرعة جرّاء الصدمة، وأنّ الغرب سيظهر ردود فعل ضعيفة، وسيرضخ، في النهاية، للأمر الواقع الذي سيفرضه بوتين، وعلى المدى الأبعد، سيتفكّك حلف الناتو، وستضطر أعداد كبيرة من دول أوروبا الغربية إلى بناء تفاهمات أمنية خاصة مع روسيا.

تكشف الأهداف التي أعلنها بوتين من حربه على أوكرانيا مدى تأثره بهذه الفرضيات والتقديرات الخاطئة التي بنى عليها مواقفه، فقد جرى الإعلان، منذ البداية، أن الهدف هو نزع سلاح أوكرانيا، وإجبارها على الحيادية وتعهدها بعدم الانضمام إلى حلف الناتو أو الاتحاد الأوروبي، وبدا أنّ الطريق إلى تحقيق هذه الأهداف سيكون نزهة للدبابات الروسية إلى قلب كييف، يتناول الجنود في نهايتها القهوة هناك، إلى حين يجتمع البرلمان الأوكراني، ويعلن حياد أوكرانيا وينصّب خليفة فولودمير زيلينسكي الذي سيكون قد فرّ إلى خارج البلاد منذ ساعة إعلان البيان الأول للحرب.

لم يمضِ الأسبوع الأول، حتى أدرك بوتين حجم الورطة التي وضع نفسه بها. ولا شك في أنّه صرخ بمن حوله: “لو كنت أعلم لما ذهبتُ إلى الحرب”. أدرك أنّ التقارير التي كانت تصل إلى مكتبه في سوتشي عن الجيش الحديث والأسلحة الخارقة ليست سوى مجرّد إعلانات تقوم بها نخب المافيات في مراكز صناعة الجيش للحصول على ميزانيات كبيرة. اكتشف أنّه وقع ضحية خدعةٍ سبق أن قام بها موظفو الدولة الروسية في زمن القياصرة، عندما كانوا يعبّدون الطرقات، ويزينون واجهات القرى التي يمر بها موكب القيصر، ليطمئن أنّ روسيا تسير على سكّة التحديث.

ما زاد في ضبابية الصورة لدى بوتين أنّ الجيش الروسي وجهاز الاستخبارات الروسية حققا فعلاً بعض النجاحات، الجيش في تعديله موازين القوى في الحرب السورية، والاستخبارات عبر تسميم بعض المعارضين، واختراق بيانات الخصوم في أميركا وأوروبا. لكن، فات بوتين أنّها نجاحاتٌ على أهداف سهلة، إذ ليس من الصعب هزيمة المعارضة السورية التي لا تمتلك أسلحة مضادّات جوية، كما أنّ تحوّطات الغرب في المجال السيبراني لم تكن كبيرة.

رؤية بوتين الصورة الحقيقية التي كشفتها الأيام الأولى للحرب، والمشكلات اللوجستية والتقنية، التي يجب ألّا يقع بها جيشٌ محترفٌ وحديث، جعلته متوتراً إلى أبعد، إذ لجأ باكراً إلى رمي أهم أوراقه في وجه الغرب، عبر التهديد باستخدام السلاح النووي، فلم تكن الوقائع على الأرض تؤيد تهديده، ولم يكن ثمّة أعداء ذوو قيمة يواجهونه في ميادين أوكرانيا. كان الجيش الروسي عدو نفسه، بخططه الخرقاء وتكتيكات قادته وأساليب إدارتهم المعركة، وبالتقارير الكاذبة التي كانوا يزوّدون بها بوتين عن انهيارات متسارعة للقوات الأوكرانية، وتدميرهم القوى الجوية، في وقتٍ كانت الطائرات المسيرة تفتك بأرتال الجيش الروسي.

وبما أنّ الغرب لم يكترث لتهديد بوتين ويقنع الأوكرانيين بالاستسلام، وبما أنّ بوتين لن يستطيع اللجوء إلى الخيار النووي، فلا بد أنّه فكر ببدائل قد تكون أكثر نجاعة للخروج من ورطته، فكانت فكرة اللجوء إلى المرتزقة خياراً ممكناً وقابلاً للتطبيق، خصوصاً المرتزقة الذين درّبتهم روسيا أو تعاونت معهم في سورية، ويقدّر عددهم بالآلاف. لكنّ هذا القرار ينطوي على دلالات خطيرة، ساهم الموقف العسكري الروسي في إدراكها: أنّ الحرب ستكون مديدة، خصوصاً إذا دخلت القوات الروسية إلى المدن الأساسية، حيث ستواجه مقاومة شديدة، لن تستطيع وهي غير مدربة على هذا النمط من المعارك على خوضها. أنّ الخسائر البشرية الروسية إما بلغت حداً محرجاً لبوتين، أو هناك تقدير باحتمال تكبد خسائر كبيرة في المرحلة اللاحقة، وبالتالي يتيح اللجوء إلى خيار المرتزقة تخفيف أعداد القتلى الروس، تحسّباً لعدم حصول ردات فعل عنيفة من الرأي العام الروسي المستَفَز أصلاً من هذه الحرب ومخرجاتها الاقتصادية الخطيرة. بوتين يتجه إلى حرب وحشية، ربما لا يستطيع تنفيذها عبر طائراته، بسبب وضعه تحت مجهر الرقابة الغربية، وباستخدامه للمرتزقة، خصوصاً من نمط أولئك الذين خاضوا الحرب السورية وارتكبوا أقسى أنواع المجازر، يمكن لبوتين إرهاب الأوكرانيين، ودحر مقاومتهم باستخدام التكتيكات القذرة.

فات النصر السهل بوتين في حربه، لكنّه يبحث عن تحقيق هذا النصر بأيّ وسيلة، هزيمته لن تكون مجرد انتكاسة، سيكون ثمنها كلّ ما بناه في سنواته العشرين من حكمه من نخب وثروات وأفكار واهمة، لم يبقِ من أدواته سوى المرتزقة لإنقاذ الهيكل الكرتوني الذي وضع نفسه به وأوهم العالم، والروس في مقدمتهم، أنّه شمشون الجبار.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا