قراءة في الموقف السعودي من النظام السوري

أن ينعت مندوب المملكة العربية السعودية عبد الله المعلمي في مجلس الأمن النظام السوري بنعوت حادة، فهذا أمر مفاجئ في ضوء الليونة التي أظهرتها المملكة خلال السنوات الأربع أو الخمس الماضية حيال النظام السوري.

لكن هذا التصريح، يحمل في طياته العديد من الحمولات، فلا يتعلق الأمر بعودة المملكة إلى موقفها التقليدي من النظام السوري ـ الذي استمر لنحو سبع سنوات منذ اندلاع الثورة ـ فحسب، بل يتعلق الأمر بأن الليونة التي أظهرتها الرياض تجاه دمشق خلال الفترة الماضية ليست نابعة من قناعة سعودية بقدر ما هي استجابة لمتطلبات حلفائها داخل المحور الذي يضم الإمارات ومصر، اللتان طالما ضغطتا بقوة على المملكة لتعديل موقفها من النظام السوري.

ما هي الأسباب التي أدت إلى تراجع السعودية عن توجهاتها والعودة إلى موقفها التقليدي؟ ولماذا هذه الصيغة الحادة التي استخدمها المعلمي؟ وهل يمكن اعتبار هذا الموقف القديم ـ الجديد ضربة لمحاولات إعادة النظام السوري إلى الجامعة العربية من بوابة القمة العربية المقبلة في الجزائر؟ وهل يمكن وضع هذا الموقف في سياق عودة العلاقات السعودية القطرية ـ وهما الدولتان اللتان شكلتا الرافعة العربية لدعم الثورة السورية ومحاربة النظام ـ أم أن ثمة عوامل سياسية إقليمية لعبت دورا في هذا الموقف؟

على مستوى الخطاب الرسمي السعودي، لم يحدث تغير في الموقف السياسي من الملف السوري، حيث ظلت الرياض تدعو إلى الالتزام بقرارات مجلس الأمن، ومقررات جنيف، قبل إعادة العلاقات مع النظام السوري، وإعادته إلى الجامعة العربية، وقد أعلن وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان في نوفمبر الماضي خلال لقاء مع شبكة “سي أن بي سي” الأمريكية، أن بلاده لا تفكر في التعامل مع رئيس النظام السوري في الوقت الحالي، وأن الرياض تدعم العملية السياسية في جنيف التي ترعاها الأمم المتحدة بين النظام السوري والمعارضة.

لكن، السلوك السياسي للدول، لا يتماهى تماما مع خطابها السياسي، حيث يبقى الخطاب ثابتا في عناوينه الرئيسية، في حين يتغير السلوك بتغير المعطيات، ولنا في الولايات المتحدة مثال على ذلك، فقد استمرت واشنطن بمواقفها الثابتة حيال الوضع السوري وحيال مستقبل الحل السياسي، بيد أنها أقدمت على إجراء تغيرات كبيرة في سلوكها، سواء تجاه النظام السوري أو تجاه المعارضة: يبقى الخطاب الرسمي مرتبطا بالموقف السياسي المعياري، أي بما يجب أن يكون، في حين يرتبط السلوك بالمعطيات المعقدة القائمة.

هكذا، حافظت السعودية على موقفها من الحل السياسي في سوريا، وإن اختلفت مواقفها التكتيكية: في 4 نيسان (أبريل) الماضي، قال وزير الخارجية السعودي، إن بلاده “تأمل أن تتخذ حكومة بشار الأسد الخطوات المناسبة لإيجاد حل سياسي، لأن هذا هو السبيل الوحيد للتقدم في سوريا”، وقبل هذا التصريح بشهر، طلبت السعودية عودة سوريا للجامعة العربية أثناء زيارة وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى الرياض.

بدأت ملامح التغير في الخطاب الرسمي السعودي تجاه الملف السوري تظهر نهاية عام 2017، وإن بقيت الرياض ثابتة في خطابها على العناوين الرئيسية للحل السياسي.

في 24 أغسطس 2017، ذكرت وكالة “أسوشيتد برس” أن وزير خارجية السعودية، عادل الجبير، دعا “الهيئة العليا للمفاوضات” لوضع رؤية جديدة حول تسوية الأزمة في سوريا ومستقبل بشار الأسد.

لم يكن هذا الموقف، نابعا من إعادة قراءة سعودية للوضع في سوريةا وإنما جاء نتيجة الضغوط الأمريكية الكبيرة جدا، بعدما قررت واشنطن منذ النصف الثاني من ولاية أوباما الثانية، التنازل عن المطالبة بإبعاد الأسد كشرط مسبق للمفاوضات السياسية، وهو الموقف الذي فرضته الولايات المتحدة على حلفائها في أوروبا منذ منتصف عام 2016.

بعد الخسائر الكبيرة التي تكبدتها المعارضة السورية المسلحة نتيجة التدخل العسكري الروسي، وجدت الرياض نفسها مجبرة على الابتعاد عن الساحة العسكرية السورية، وهو قرار تم التوافق عليه بين موسكو وواشنطن، بحيث يُحصر التدخل العسكري بين أربعة دول فقط (الولايات المتحدة، روسيا، إيران، تركيا بحكم الجغرافيا).

هكذا، وجدت المملكة نفسها خارج اللعبة في سوريا، بينما زادت قوة تركيا في الملعب السوري، وبسبب عدم رغبتها في الابتعاد عن الملف السياسي السوري، اتجهت الرياض نحو مناكفة أنقرة عبر “الهيئة العليا للمفاوضات” ومطالبتها بتغيير موقفها من المنصات الأخرى (موسكو، القاهرة) والقبول ببقاء الأسد خلال المرحلة الانتقالية.

ولا يمكن بطبيعة الحال، عزل تغيرات الموقف السعودي من سوريا عن الحرب في اليمن التي شكلت تهديدا حقيقيا للأمن الوطني السعودي، ودفعت الرياض إلى تركيز جهودها على الساحة اليمنية.

وبسبب حدة صراع المحاور في المنطقة، لا سيما بعيد الحصار على قطر، توجهت السعودية بضغط من حلفائها إلى تقديم تنازلات تجاه النظام السوري، منها، سماح الرياض في سبتمبر 2020 بمرور شاحنات البضائع السورية عبر أراضيها بعد فتح معبر نصيب / جابر على الحدود السورية ـ الأردنية، وسماحها في ديسمبر 2020 بوصول رحلة جوية (أجنحة الشام) من مطار دمشق الدولي إلى الرياض، هي الأولى من نوعها منذ أربع سنوات بين البلدين، وسماحها في مايو 2021 بمشاركة وفد من النظام السوري يترأسه وزير السياحة محمد مرتيني في اجتماع للجنة منظمة السياحة العالمية للشرق الأوسط استضافته المملكة.

تزامن ذلك مع معلومات أوردتها صحيفة “الغارديان” البريطانية أن وفدا سعوديا برئاسة رئيس المخابرات الفريق خالد الحميدان زار دمشق والتقى رئيس مكتب الأمن الوطني علي مملوك.

بني التوجه السعودي الجديد حيال سوريا آنذاك على مقاربة سياسية مفادها، أن الستاتيكو الاسترايجي في سوريا يضر بالمصلحة العربية، في حين يفيد إيران التي تزداد قوة داخل سوريا، وأنه لا بد من التعامل مع سوريا كبلد عربي لا كنظام، على أمل أن يسمح ذلك بإعادة دمشق إلى سياستها التقليدية قبل عام 2011، حين كانت توازن بين علاقاتها العربية ـ خصوصا الرياض والقاهرة ـ وبين علاقتها مع إيران.

غير أن هذه المقاربة بدت دون جدوى، مع قناعة الرياض أن النظام السوري غير قادر على تنفيذ المطالب العربية بالوقوف على مسافة من إيران التي أصبحت مع موسكو سيدة الموقف في دمشق.

ومع عودة العلاقات السعودية ـ القطرية إلى سابق عهدها، ونجاح قمتي العلا والرياض لمجلس التعاون الخليجي، بما أعاد ترتيب البيت الخليجي من جهة، وتحسن العلاقات السعودية ـ التركية من جهة ثانية، وفشل الحوارات السعودية ـ الإيرانية السرية من جهة ثالثة، والتعنت الإيراني في مفاوضات فيينا النووية من جهة رابعة، بدأت المملكة تستشعر ضرورة العودة إلى موقفها التقليدي من النظام السوري، على اعتبار أن الانفتاح عليه لن يحقق أية مكاسب استراتيجية، بل سيفيد حليفه الإيراني و “حزب الله”.

في هذا السياق جاءت كلمة المعلمي الحادة في زمان ومكان لهما دلالتهما: المكان، جلسة للجمعية العامة للأمم المتحدة خصصت لمناقشة قضايا حقوق الإنسان في بعض دول العالم، ومن بينها سوريا، ما يعني أن المملكة أرادت توجيه رسالة سياسية للمجتمع الدولي، خصوصا الولايات المتحدة والدول الأوروبية الغربية، بأنها ليست في وارد تجاوز التفاهمات معهم فيما يتعلق بالحل السياسي السوري.

أما بالنسبة للزمان، فقد جاء هذا الموقف في سياق الجهود التي تبذلها دول عربية ـ تحديدا الجزائر ومصر والإمارات ـ لإعادة سوريا إلى الجامعة العربية خلال القمة العربية المقررة في آذار (مارس) المقبل.

ومن شأن هذا الموقف أن لا تقتصر تداعياته على استمرار تجميد المقعد السوري في الجامعة العربية، بل تتعداه إلى احتمال ظهور خلافات بين السعودية ومصر في المرحلة المقبلة في أكثر من ملف.

لم يقم التقارب السعودي ـ المصري خلال السنوات الماضية بناء على قاعدة مشتركة في ملفات المنطقة، بقدر ما جاء بناء على ضرورة مستعجلة فرضتها العداوة المشتركة للإخوان المسلمين والدول الداعمة لهم، فقد ظلت الخلافات بين الجانبين حادة.

هل علينا التذكير بما حدث في التاسع من تشرين الأول (أكتوبر) عام 2016، حين صوتت مصر إلى جانب قرار روسي، بشأن الأزمة السورية في مجلس الأمن، الأمر الذي دفع السفير السعودي في الأمم المتحدة عبد الله المعلمي إلى انتقاد السلوك المصري علنيا، وقال آنذاك “كان مؤلما أن يكون الموقف السنغالي والماليزي أقرب إلى الموقف التوافقي العربي من موقف المندوب المصري”.

استدعت المملكة سفيرها من القاهرة أحمد القطان للتشاور، بعد مرور يومين فقط على جلسة مجلس الأمن، ثم أقدمت الرياض على خطوة أخرى، تمثلت بإعلان شركة “أرامكو” السعودية عن وقف إرسال شحنة وقود كان من المفترض توريدها إلى مصر، في إطار حُزم المساعدات التي تبذلها السعودية للنظام المصري منذ تموز (يوليو) 2013، كما تم تجميد إرسال وديعة مالية، ضمن برنامج لتوفير حزمة جديدة من المساعدات الاقتصادية السعودية لمصر.

على الصعيد الإيراني، ظلت العلاقة المصرية ـ الإيرانية مستمرة في أوج الصراع السعودي ـ الإيراني، ورفضت القاهرة الانصياع لمطالب الرياض باتخاذ مواقف حادة من إيران.

الأمر ذاته ينطبق على اليمن، فعلى الرغم من مشاركة مصر في التحالف العربي، فقد ظلت المشاركة المصرية خجولة ودون أي تأثير على الأرض.

باختصار، يمكن القول إن التوافقات السعودية ـ المصرية في ملفات المنطقة ـ باستثناء الموقف من الإخوان المسلمين ـ هي توافقات ظاهرية، وجرى التفاهم بين الجانبين بالاكتفاء بهذا الموقف الظاهري من أجل التركيز على المشترك الأهم آنذاك.

المصدر عربي 21


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا