كاريكاتور الأسد بريشته

قبل ثلاثة أيام حدث جدل خفيف بين عميد كلية الطب في دمشق ووزير التربية، العميد طالب بتأجيل إعادة طلاب المرحلة الأولى إلى المدارس لأسبوعين، وفي تصريح لإذاعة “شام إف إم” رد الوزير بالقول: نحترم عميد كلية الطب البشري بآرائه المطروحة في ما يتعلق بتأجيل المدارس، لكنه لم يغلق المشافي، ولا الجامعة المشرف عليها! لتنقل “شام إف إم” ردّ العميد الذي يؤكد على أن تلاميذ المرحلة الأولى هم الأكثر نقلاً لفيروس كورونا من دون ظهور أعراض عليهم، منوّهاً بأن الغرض من الاقتراح كان “مراقبة منحنى الإصابات خلال 15 يوماً، باستمراره بالشكل الأفقي ليعود الطلاب إلى المدارس بلا خوف”.

أسبوعان فقط انقضيا على تعيين وزير التربية “دارم الطباع” في منصبه في حكومة الأسد الجديدة، التعيين الذي أثار سخرية واسعة لكونه مختصاً في الطب البيطري، ليأتي تصريحه الأخير فيؤكد أسوأ ما كان في تلك السخرية، لا تلك التي تحمل احتراماً لتحصيله العلمي وتنتقد فقط عدم وجوده في المكان المناسب. مقارنة إغلاق المستشفيات بتأجيل المدارس تحتاج جرأة عقلية غير متاحة لمعظم الناس، وهذه إشارة تؤكد على مدى أهلية الوزير لإدارة وزارة حساسة مثل التربية. لكن المسؤولية كما نعلم لا تقع على عاتق الوزير، وكل ما فعله أنه استكمل بتصريحه “وبعفوية تامة” مسارَ تعيينه من قبل رئيسه الذي وضعه في المنصب. هو الكاريكاتور الذي يرسمه بشار الأسد بنفسه لحكمه، أو لما تبقى منه، الكاريكاتور الذي لا يأتي بمحض المصادفة، وإنما بعفوية تامة أيضاً.

في الكاريكاتور ذاته، نقرأ التصريحات “الرصينة” لعميد كلية الطب عندما يتحدث عن استمرار منحنى الإصابات بشكل أفقي لمدة أسبوعين. فنحن هنا إزاء تقييم صحي من صاحب اختصاص، إلا أن صاحبه يأبى “أو لا يستطيع” مغادرة الكاريكاتور إذ يتحدث وكأن هناك إمكانية حقيقية لمراقبة منحنى الإصابات، فضلاً عما يحمل التصريح من اقتناع بأفقية المنحنى وفق الإحصائيات التي تصدرها سلطة الأسد.

للتوضيح: يُستخدم تعبير “تسطيح المنحنى” في حالة الوباء للدلالة على أن معدل انتقال العدوى انخفض إلى الرقم واحد، وصار تحت السيطرة للانتقال إلى معدل يُعدي فيه المصاب ما نسبته أقل من شخص آخر في مسار من الانحسار. هذه العملية تتطلب كفاءة شديدة في إجراء الاختبارات وتعقب الإصابات، واستيعاب المستشفيات مَن هم بحاجة إلى التداوي والتزام باقي المصابين بالحجر، بخلاف ذلك يحدث التسطيح ضمن مسار طويل وشاق عبر مناعة القطيع، وحتى التأكد من الوصول إلى الأخيرة تلزمه القدرة على المتابعة والقياس. أرقام الإصابات التي راحت تعلنها سلطة الأسد “بعد انفضاح تفشي الوباء” وصلت إلى ما يقارب التسعين لتنخفض تدريجياً إلى ما يقارب الستين مع حديث عن تسطيح المنحنى، بما يوحي بوجود متابعة وسيطرة، إنما مع معرفة الجميع بأن هذا كله عبارة عن كاريكاتور آخر يقدّمه الأسد، بوصف الكاريكاتور نسخةً هزلية عن الواقع.

على نحو كاريكاتوري مشابه، أتت صور بعض عناصر قوات الأسد، وهم يحاولون إخماد الحرائق بإهالة التراب على النار برفوش بدائية. الحرائق التي اندلعت على مساحة واسعة من الغابات والأحراش كانت تحتاج إمكانيات يبدو إزاءها حاملو الرفوش أولئك بمنظر تختلط فيه المهزلة بالشفقة. ثم، لتكتمل عناصر المهزلة، سيعلن وزير الزراعة عن السيطرة على الحرائق “على منوال تسطيح منحنى كورونا المزعوم” والقبض على مزارع تسبب بحريق بداعي الإهمال، بينما كانت تتسع لتطاول أحراشاً جديدة بالقرب من مصياف، ومن الأخيرة في اتجاهي وادي العيون ومشتى الحلو. لتتفاقم المهزلة، أتى الوفد الروسي الموسع في خضم اشتعال الحرائق موقعاً أربعين اتفاقية اقتصادية، وليتحدث لافروف في المؤتمر الصحفي مع نظيره الأسدي عن قضايا مثل السيادة والانتخابات ومكافحة الإرهاب، من دون التفاتة مجاملة إلى الكارثة الواقعة غير بعيد جداً عن القواعد العسكرية الروسية.

بسبب المادة/المهزلة التي يقدمها الأسد، ستنتعش تكهنات وتفسيرات لا سند ملموساً لها، فتفسير اشتعال الحرائق سيتراوح بين افتعالها من قبل تجار سيجنون الفحم لبيعه في موسم الشتاء المقبل وبين اكتساب أراضٍ جرداء لتُبنى عليها منشآت سياحية، وستساعد وسائل التواصل على تناقل كافة الافتراضات بما فيها أبعدها عن المنطق متغذّية على أداء السلطة الذي يبعث على السخرية. وجود سلطة تحولت في أحسن أحوالها إلى مادة للتندر يشجع حتى على “الافتئات” عليها خارج المنطق أو الوقائع، بما أنها قابلة لتلبس كل ما هو غير معقول عطفاً على مهزلتها نفسها. هكذا، بلا ضابط أو تصحيح، يمكن ترويج أي سيناريو قد لا تنقصه الكاريكاتورية إذا أمعنا التفكير فيه مقابل لما تروجه هي. أو حتى ترويج سيناريو رغماً عن الوقائع، فقد رأينا مثلاً إصرار مراسل صحيفة عربية كبرى على استثنائية زيارة الوفد الروسي إلى دمشق، قبل وبعد الزيارة، مع إقراره بأن وقائع الزيارة لم تحمل أي جديد.

نحن بالأحرى أمام كاريكاتور سلطة، سلطة مدنية ركيكة ومهلهلة كرسم هزلي عن مفهوم السلطة بقدر ما هي باطشة ومتوحشة على الصعيدين الأمني والعسكري. سلطة تثير الرعب من جانب، وتثير تفاهتُها السخريةَ والضحك من جانب آخر، وهي في الحالتين كأنما محكومة بقدر لا فكاك منه، محكومة بوحشيتها من أجل البقاء، ومحكومة بتفاهتها لعجزها عن أن تكون سوى ما هي عليه وأن تتحفنا بين الحين والآخر بما يشير إلى مسار مستقر من الانحدار.

عندما نقول أن بشار الأسد يرسم كاريكاتوره بريشته فلأنه في موقع لا يستطيع أن يكون فيه سوى محاكاة هزلية لسلطة بائدة، إنه من دون أن يتعمد ذلك يقدّم ذلك التهافت المثير للسخرية، وكلما أمعن في إظهار سلطته بانت الأخيرة إما متوحشة أو ساخرة، أو الاثنين معاً كإبقاء السوريين الذين لا يملكون مئة دولار كرسم دخول عالقين على الحدود. يأتي الكاريكاتور من أن بشار الأسد لا يقلّد حقاً أية سلطة بالمعنى المتعارف عليه، هو أسير سلطته نفسها التي يحلم باسترجاعها، إنه يقلّد الأسدية التي لا يعرف غيرها، الأسدية التي يعز عليه الاقتناع بانقضاء صلاحيتها وبتحولها إلى مهزلة بعد قطعها طور المأساة. لعل أكثر ما يكون مثاراً للسخرية اجتماعُ النرجسية والابتذال لدى مَن لا يتقن سوى تقليد فشله.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا