كورونيات سوريّة

كيف يمكن لأحد ما أن يبتدع فكرة إعادة شراء وبيع الكمامات المخصصة للاستعمال مرة واحدة؟ بكل آسف هذا إبداع سوري خالص، إذ هناك أمام أبواب بعض المؤسسات التي تُلزم مراجعيها بارتداء الكمامة أشخاص يبيعون الراغبين، ولدى خروجهم من المؤسسة يعرضون عليهم شراءها بسعر متدنّ عن سعر المبيع من أجل إعادة بيعها لزبائن مقبلين. أليست الحاجة أمّ الاختراع؟ هذا مثلٌ يجسّد تلك المقولة بأقسى ما يمكن تخيّله من فظاظة أو وحشية، فنحن أمام الحاجة بمعناها المدقع، أو أمام العوز الذي يقترح تجارة باهظة التكلفة صحياً، وهي ليست بالتجارة المخفية لأن المشتري والبائع متواطئان في عملية تخفف العبء الاقتصادي عن الأول المضطر على الأرجح لتغليب حاجته إلى ثمن الغذاء على احتياطات صحية يراها من الكماليات.

هل هناك بقعة في العالم تحدث فيها مضاربات على أجهزة التنفس في المستشفيات؟ مع الأسف تشير الأخبار إلى أن هذا الاختراع الشيطاني القذر قد أخذ طريقه إلى بعض مَن يُطلق عليهم تلطفاً وصف “ضعاف النفوس”، ففي المستشفيات الخاصة تكلفة الليلة في العناية الفائقة هي بحدود ربع مليون ليرة سورية، ومع أن الأثرياء فقط قادرون على دفع الكلفة فقلّة الأسرّة فتحت باب خفياً للمضاربات ولمن يدفع من وراء الكواليس مبالغ أعلى من المعلن. صراع الوجود هذا متصل بتوفر 325 سريراً للعناية الفائقة، أي مع إمكانية تقديم أجهزة التنفس للحالات الحرجة، في جميع مستشفيات سوريا العامة منها والخاصة، وكما نعلم لم تعد الحدود مفتوحة أمام الأثرياء للعلاج خارج البلاد.

قبل قرابة أسبوع بشّرت إعلامية موالية بارزة مستشفيات حلب بوصول الأكياس المخصصة لدفن ضحايا كورونا، ومن صفحتها وصفحات أخرى شديدة الموالاة سنحصل على أسماء لبعض أولئك الضحايا، اشتُهرت منها قائمة بالضحايا الأطباء الذين قيل أن عددهم وصل الثمانين، بينما هناك حوالى 65 موثّقين بالاسم، أحدهم شاب يبلغ من العمر 36 عاماً، من دون احتساب ضحايا الطاقم التمريضي. ضخامة عدد ضحايا الطاقم الصحي لا تشير فقط إلى المستوى المرتفع جداً لتفشي الفيروس، وإنما أيضاً إلى مستوى الوقاية التي يحظى بها الطاقم، والتنويه بمناقبية أولئك الذين يعملون ضمن شروط صعبة جداً “ومنهم له من الشهرة والكفاية ما يغنيه عن العمل ضمن الخطر” لن ينقذ زملاءهم في الظروف ذاتها التي أودت بهم.

تذكّرُ الأرقام الواردة أعلاه مهم للمقارنة، فحتى ليل الأحد كانت الحصيلة الرسمية المعلنة من قبل وزارة الصحة هي 64 وفاة جراء الفيروس مع تسجيل 1677 إصابة، أي أن حصيلة الوفيات حسب وزارة الصحة أقل حتى من وفيات الأطباء الموثّقة بالأسماء. الكذب المكشوف بوقاحة سيبرره إعلاميو الأسد بأن الإحصائيات المعلنة تقتصر على أولئك الذين أتت تحاليلهم إيجابية، وهذا لا يمنع وجود آلاف من المصابين وربما الوفيات ممن لم ينالوا حظوة التحليل، ولم يُحتسبوا تالياً على المصابين أو الضحايا. بالطبع لا يجيب التبرير عن واقع توفر الاختبارات للراغبين في السفر مقابل دفع 100 دولار، ولا عن الصور التي وردت من المراكز المخصصة لهم والتي تُظهر اكتظاظاً مستغرباً في مثل هذه الظروف، فكما نعلم وجهة السفر الوحيدة المتاحة هي لبنان، والحدود معه ليست مفتوحة على مصراعيها سواء للسفر إليه أو عبوراً منه إلى وجهة أخرى.

وزارة أوقاف الأسد أعلنت استئناف صلوات الجمعة والجماعة في دمشق وريفها بدءاً من فجر الأحد، بعد تعليق دام أسبوعين، بينما تفيد كافة المؤشرات بتفاقم الوباء في العاصمة وريفها، وتشير مواقع طبية محسوبة على الموالاة إلى أن استمرار الخط البياني في التصاعد لأسبوع آخر يعني الانهيار الصحي التام. أبواق الأسد إذا أشارت مضطرة إلى الواقع تلقي باللوم على العقوبات الدولية، خاصة العقوبات الأمريكية بموجب قانون قيصر، رغم أن العقوبات تستثني المواد الطبية والغذائية. الأهم أن سلطة الأسد وأبواقها لا تعترف بالواقع المتهالك إلا من أجل المطالبة برفع العقوبات، مع إدراكها أنه مطلب غير قابل للتنفيذ. أحد الأبواق لا يفتقر إلى “الفطنة” لينشر في الجريدة التي يرأس تحريرها تحليلاً مفاده استعجال ترامب الإعلان عن الاتفاق الإماراتي الإسرائيلي للتغطية على إعلان بوتين عن اللقاح الروسي، ربما ظناً منه أن النجاح الروسي المزعوم سيقدم السلوى لآلاف الضحايا السوريين إن كان بينهم من يقرأ الجريدة.

المناطق الخارجة عن سيطرة الأسد بقيت في منأى عن الوباء، حتى أتتها العدوى من مناطق سيطرته، ورغم ما هو معلن لجهة إغلاق المعابر من قبل قسد ومن قبل الفصائل المسيطرة على إدلب وعفرين وشرق الفرات فإن خطوط التهريب والمستفيدين منها تكفلا بتسرب حالات الإصابة، وقد وصل بعضها إلى النقاط الأخطر، أي إلى مخيمات للنازحين تندر فيها أصلاً أدنى شروط النظافة، وتعاني من الاكتظاظ الشديد ضمن المخيم وضمن كل خيمة على حدة. يعيش في مخيمات إدلب وحدها قرابة مليون لاجئ، وعدد أسرّة العناية الفائقة فيها 20 سريراً، ولا يختلف الحال كثيراً في محافظة الحسكة التي تمتلك مستشفياتها 18 سريراً مماثلاً. الفيتو الروسي في مجلس الأمن كان قد خفّض عدد المنافذ التي تدخل منها مساعدات الأمم المتحدة إلى منفذ وحيد خارج سيطرة الأسد، ما يضع الثقل على قوتي النفوذ المسيطرتين، التركية والأمريكية، وحتى الآن لم يبدر عنهما ما ينبئ بتفادي الكارثة المحتملة، بل يصعب استبعاد هجوم روسي على إدلب ليزيد من هولها.

تأخذ منظمة الصحة العالمية بالإحصائيات “الرسمية” التي تعلنها وزارة صحة الأسد، ولم نسمع مؤخراً من مكتبها في دمشق أي تحذير من التردي الحاصل، وهذا هو حال جميع المؤسسات الأممية التي حابت الأسد طوال السنوات الماضية. الخبر الوحيد الذي بمثابة المضحك المبكي هو انعقاد مفاوضات اللجنة الدستورية في جنيف، إذا لم يعرقله انسحاب لوفد الأسد، وكأن هذه هي الأولوية السورية الآن. لن تعلن سلطة الأسد البلاد منكوبةً، وقد لا تفعل ذلك سلطات الأمر الواقع الأخرى، وكأن استرخاص حيوات السوريين صار قاعدة يعمل بموجبها الداخل والخارج. من السهل على أي منا القول أن العالم الذي تفرج على إبادة وتهجير ملايين السوريين قبل كورونا لن يكترث وهو في مصابه بحيواتهم، لكن ما ينقذ أرواح السوريين اليوم ليس بتكلفة ثقيلة حتى على منظمات الإغاثة والصحة الأممية، وأقل ما يستحقه هذا البؤس ألا نتوقف عن التذكير به.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا