كيف غيّرت حرب أوكرانيا التفكير الأوروبي؟

سوف يستمرّ، على الأرجح، لبعض الوقت، الجدل المتصل بالتداعيات التي تسبّبت بها حرب أوكرانيا على النظام الدولي وعلاقات القوة السائدة فيه، بين من يرى أنها تؤسّس لنظام دولي جديد ومن يرى أنها مجرّد أزمة دولية لا يلبث أن يتكيف معها النظام القائم ويستوعبها كما فعل مع غيرها (أحداث سبتمبر، غزو العراق، أزمة 2008، وباء كورونا .. إلخ). لكن الأمر الذي لا يحتاج إلى نقاش هو حجم الصدمة التي أحدثتها أوكرانيا في أوروبا، ومقدار التغيير الذي تسبّبت به في التفكير السياسي للقارّة العجوز التي اعتقدت نخبها السياسية والفكرية والثقافية أنها صارت ناضجة كفاية لحل مشكلاتها بالوسائل السياسية، وأن لديها من الآليات والأدوات ما يمكّنها من ذلك، وأن عصر الصراعات المسلحة بات وراءها، وأن الحرب العالمية الثانية كانت آخر الحروب بين دولها (باعتبار أن حروب يوغسلافيا السابقة تعدّ من ضروب الحرب الأهلية).

وقد تعزّز هذا الاتجاه الفكري مع انتهاء الحرب الباردة، وسقوط جدار برلين، وقيام ألمانيا الموحّدة، وتفكّك تشيكوسلوفاكيا، ذلك كله من دون أن تطلق طلقة مدفعية واحدة. ثم جاء تحوّل دول أوروبا الشرقية نحو الديمقراطية واندماجها في الاتحاد الأوروبي، ما يعنى أن الرأسمالية، والديمقراطية الليبرالية، قد انتصرت في أوروبا، في نهاية المطاف، على كل الأيديولوجيات المنافسة (النازية والفاشية والقومية والشيوعية)، ولم يبق أمامها سوى إدماج روسيا اقتصاديا بها، وصولا إلى دمقرطتها. هنا كان الرهان (الألماني خصوصا وإلى حد ما الفرنسي) على أن إنشاء اعتمادية متبادلة (mutual dependency) مع روسيا وتوثيق العلاقات التجارية معها سوف يخلق حجما هائلا من المصالح بينها وبين أوروبا، قد تسفر، في نهاية المطاف، عن لبرلتها وصولا إلى قيام نظام ديمقراطي فيها (وهو الرهان الأميركي نفسه بخصوص الصين، عندما جرى استيعابها في منظمة التجارة الدولية، وغيرها من هياكل النظام الليبرالي الدولي، على أمل تغيير نظامها السياسي).

ويُبرر هذا جزئيا الاندفاع الألماني نحو توسيع الاتحاد الأوروبي شرقا وصولا إلى حدود روسيا، وجعل هذه معتمدة كليا تقريبا على الأسواق الأوروبية لبيع منتجاتها (80% من صادرات الطاقة الروسية كانت تذهب قبل حرب أوكرانيا إلى أوروبا) في المقابل تحصل روسيا على المال والتكنولوجيا الغربية. وهذا تحديدا ما حدا بأوروبا إلى التعاون في تمويل إنشاء عدد كبير من أنابيب النفط والغاز الروسية المتجهة إلى أوروبا بعد نهاية الحرب الباردة، مثل خط أنابيب يامال (المار بروسيا البيضاء إلى بولندا) وخط نورد ستريم 1 (عبر البلطيق) وخط “الأخوة” (عبر أوكرانيا) وخط السيل الجنوبي الذي تحول لاحقا إلى السيل التركي، وأخيرا خط نورد ستريم 2.

وكثيرا ما جادل الأوروبيون أنهم، وبعكس الأميركيين، لا يحتاجون، مع أدوات القوة الناعمة التي يملكونها، القوة الصلبة من أجل التغيير أو حماية مصالحهم، خصوصا بعدما نجحوا في دمقرطة أوروبا الشرقية وتركيا عبر نظام الحوافز الاقتصادية والدبلوماسية. كما رفض الأوروبيون نظرية “توازن القوى”، وأطروحة فرض “السلام من خلال القوة”، وهو ما أدّى بهم إلى إهمال بناء قدرات عسكرية كبيرة خاصة بهم، ردًا على صعود روسيا وتنمّرها الذي بدأ عام 2008 بغزو جورجيا، واشتدّ بعد غزو القرم وضمّها عام 2014.

تغير ذلك كله يوم 24 فبراير/ شباط 2022، إذ بات جزءٌ معتبر من النخب الأوروبية يقرّون “بخطأهم” في قراءة العالم ونظرتهم إليه، ويرون أنه اعتراها كثير من السذاجة والتفكير الرغائبي. ويبرز بين هؤلاء تيارٌ فكريٌّ ليبرالي متطرّف أقرب ما يكون إلى المحافظين الجدد، الذين صعد نفوذهم بقوة في الولايات المتحدة مع مطلع الألفية في إدارة جورج بوش الابن، يدعو إلى تسلح أوروبا، ونبذ التفكير المثالي الحالم عن إمكانية التغيير عبر التبشير (changing through preaching)، وحماية المصالح عبر التجارة والتعاون، والقيم المشتركة، وقوة النموذج، والاستثمار في أدوات القوة الناعمة. يقسم هذا التيار العالم إلى فسطاطين (الحرية والاستبداد، الديمقراطية والأتوقراطية) ويدعو إلى قتال روسيا وهزيمتها في أوكرانيا وصولا إلى إسقاط بوتين وإنشاء نظام ديمقراطي في موسكو، باعتباره الضمانة الوحيدة لاستئناف السلام المهيض في أوروبا.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا