كي لا نستعجل تنحية بشار

موجة من التفاؤل انتشرت في أوساط المعارضين السوريين، ساهمت في إنعاشها المظاهرات التي انطلقت في السويداء ودرعا، على قلة عددها وأحياناً القلة النسبية للمشاركين فيها، حيث لا يصعب ردّ قلتهم إلى إرهاب الأسد الماثل بقوة. تدهور سعر الليرة مع التدهور المعيشي، رغم ما تنقله الأخبار من بؤس متزايد، ساهما في دعم تلك الفرضية المتفائلة عن انهيار الأسد الذي لا يملك فعل شيء للباقين تحت سيطرته قسراً أو بإراداتهم. بالطبع، شبح قانون قيصر يخيّم على سلطة بشار، مثلما يحضر بقوة في كافة التحليلات، قبل صدور وتطبيق التعليمات التنفيذية في موعدها الأول المفترض غداً.

موجة التفاؤل الجديدة قد تنسينا محطات عديدة سابقة ظهرت فيها سلطة بشار على وشك الانهيار، وأُسعفت من قبل قوى إقليمية ودولية، برضا من قوى دولية وإقليمية أخرى تزعم “أو كانت تزعم” العمل على تنحيته. في المحطات السابقة درسٌ ربما يجب عدم إغفاله الآن، وعدم الظن بأن نهاية بشار صارت قريبة جداً، وإن كان المنطق يؤدي إلى القول باقترابها، أو بحتميتها عندما تحين لحظة التسوية بما أن وجوده باعتراف الجميع “علناً أو ضمناً” وصفة للحرب.

لا ينص قانون قيصر على تنحية بشار، ولا ينص على العكس أيضاً، أي أن هذه مساحة متروكة للتفاوض. إلا أن التزام بشار “الذي لن يحدث” بكافة مقتضياته سيوصله تلقائياً إلى السقوط، لتبقى العبرة في تطبيق القانون، وفي ما منحه للإدارة الأمريكية من مرونة في تطبيق بنوده بناء على تقديراتها. تلك المرونة تتطلب “مرونة” مقابلة من بشار، من نوع التوقف عن قصف المدنيين أو الدخول في المفاوضات التي ترعاها الأمم المتحدة، حيث تقرر الإدارة ما إذا كانت العودة إلى المفاوضات تضييعاً للوقت كالمعتاد أو عودة جدية.

في كل الأحوال، الأنظار متجهة إلى حلفاء بشار لأن لهم اليد الطولى في تقرير الموقف من العقوبات، ونصوص القانون المشددة تجاه المتعاملين مع سلطته كأنما موجهة لهم بسبب قدرتهم على اتخاذ المبادرة، لا لفرض حصار تام على النحو الذي فرضته واشنطن سابقاً على صدام حسين. ونخطئ غالباً إذا لم نأخذ في الحسبان طريقة تعامل موسكو وطهران مع العقوبات الاقتصادية الغربية، فالبلدان يخضعان أصلاً للعقوبات بسبب التدخل الروسي في أوكرانيا وبسبب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ولم تفضِ العقوبات عليهما إلى تغيير في نهجهما السياسي رغم تأثيراتها على اقتصادي البلدين.

لطهران قصة طويلة مع عدم الانصياع للعقوبات الأمريكية، وطوال سنوات كانت سياستها التوسعية في المنطقة طريقاً ناجعاً للتعويض، بل للتفاوض مع الأمريكيين وأحياناً التنسيق معهم في أكثر من ملف. طبيعة نظام الملالي تجعله قليل الاكتراث بآثار العقوبات التي تمس مواطنيه، وتجعله يراهن على قوته وأذرعه العسكرية في الخارج كما في الداخل، حيث لا يرغب العديد من القوى في استفزازه إلى حد يهدد استقرار المنطقة.

أيضاً لروسيا تاريخ طويل مع العقوبات، وحتى مع الانغلاق الذاتي الذي استمر في فترة حكم السوفييت. يُضاف إلى ذلك ما يمكن تسميته بالعقيدة البوتينية المناوئة للغرب وأدواته، ومنها رفض مبدأ العقوبات كوسيلة لتحقيق مآرب سياسية، والرفض المزعوم لانتهاك سيادات الدول وتغيير الأنظمة الحاكمة. من مصلحة بوتين التسفيه والتقليل من أثر العقوبات عموماً، من أجل تسفيه السياسات الغربية عموماً، ومن مصلحته الحفاظ على بعض الأنظمة لا حباً بها وإنما فقط من موقع إفشال سياسات الغرب والنيل من ديموقراطيته.

ما نعرفه عن طبيعة بشار وحلفائه يرجّح عدم الانصياع للعقوبات الأمريكية، وعدم الاكتراث بمعاناة السوريين الذين سيزداد بؤسهم مع تطبيقها، مع التذكير بأن تدني الحساسية إزاء المأساة السورية لا يقتصر عليهم. ومن المستحسن أن نكون حذرين تجاه فرضية الثورة على بشار بسبب الظروف المعيشية المتدهورة، فهو حتى إشعار آخر لديه فائض القوة لقمع الاحتجاجات حال وقوعها، خاصة إذا كان لديه الضوء الأخضر من موسكو وطهران لممارسة البطش الذي يستهويه. إذا لم تحدث مفاجآت، ما يجدر ملاحظته أن المظاهرات الأخيرة انطلقت في السويداء ودرعا حيث كانت تتواتر بين الحين والآخر مظاهر الاحتجاج، ولم نشهد في أماكن أخرى مظاهرات تعكس التذمر والغضب المتزايدين.

لو شئنا تخيّل أفضل سيناريو للمعطيات الحالية فلن يكون الحل قبل سنة، على افتراض تغليب موسكو الاعتبارات العقلانية. مع نهاية السنة تقريباً يكون بشار قد أنهى ولايته “الدستورية”، ما يمنحها ذريعة استبداله بالطرق الدستورية لا انصياعاً للعقوبات الأمريكية. من جهة أخرى، مهلة السنة كافية نظرياً لاستنزاف بشار بتنازلات جديدة يقدّمها لموسكو، وتؤسس من خلالها حضوراً مستداماً. لكن ذلك يستلزم تفاهماً روسياً-أمريكياً “ولو ضمنياً” للتمهيد والوصول إلى هذه النتيجة، ويقتضي العمل على الحد من نفوذ طهران التي ستعرقل أية تسوية لا تلحظ مصالحها، وستعمد إلى مساندة بشار كي يرفض التنحي.

ولأن التسويات “حتى تلك المتفق عليها مسبقاً” قد يتطلب تظهيرها تغييراً في المواقع؛ من المرجح أن نشهد مزيداً من العنف، سواء بسبب سعي طرف أو أطراف لتقوية مواقعها التفاوضية، أو بسبب ما تتفق عليه الأطراف لإخلاء الساحة من المعوقات. الساحة السورية مكتظة بقوى متباينة بالأهداف، وقد يكون من المطلوب تحجيم البعض منها، وإخراج أو سحق البعض الآخر، لأن خريطة تقاسم النفوذ لصيقة بالوضع الحالي وصفقاته الصغيرة، لا بالصفقة الكبرى المحتملة وبالمنضمين إليها من بوابة تمويل إعادة الإعمار. ثم ينبغي عدم نسيان اقتراب موعد الانتخابات الأمريكية، وانتظار الأطراف الأخرى ما سيسفر عنه مزاج ساكن البيت الأبيض الحالي، أو التوجهات المختلفة لخلفه.

السوريون وحدهم من يحسب الوقت بالأيام أو الساعات، ويستعجلون خلاصهم في حين تعمل السياسات الدولية بإيقاعها الذي لا يرحم. ربما، هذه المرة، ينضم إليهم اللبنانيون إذا طُبّق قانون قيصر بقسوة، ما يجعل المعركة أشد لأنها تستهدف الرأس والذنب معاً. غني عن القول أن بشار الأسد ليس في مرتبة الرأس.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا