لعبة “لمّ” الدولار من السوق السورية

كان يمكن رفع القبعة تحيةً لإجراءات سلطات النظام الأخيرة، التي أدت إلى ارتفاع ملحوظ في سعر صرف الليرة السورية. لكن خبرة قديمة مع سياسات سبق أن انتهجها مصرف سورية المركزي، بصورة صنّفته كأكبر تاجر عملة في البلاد، تدفع للتريث، وتجعلنا نترقب المشهد بعد انتهاء موسم الحوالات “الدسم”، الممتد حتى نهاية شهر رمضان.

فأسابيع قليلة فقط، بعد عطلة عيد الفطر، ستتيح لنا أن نجزم الإجابة على التساؤل التالي: هل هي لعبة من المركزي للمّ الدولار من السوق بسعر رخيص؟

بين عامي 2012 و2016، لعب المركزي السوري، في ظل إدارة الحاكم يومها، أديب ميالة، دور تاجر عملة محترف. كانت مهمته توفير القطع الأجنبي لتمويل آلة حرب النظام التي كانت في أوج نشاطها. وكان ذلك يتطلب استنفار كل مصادر الإيرادات، وكان أحدها، تجارة العملة. فتَرَك المركزي الليرة لحالة تعويم موجّه، منذ مطلع العام 2012، وهو ما أقرّ به، أديب ميالة، يومها، في حديث مع صحيفة “فايننشال تايمز” البريطانية، في وقتٍ كانت فيه الليرة قد فقدت حوالي 40% من قيمتها، حيث انحدرت من 47 ليرة للدولار الواحد في آذار/مارس 2011، إلى حوالي 73 ليرة للدولار الواحد، في كانون الثاني/يناير 2012.

منذ ذلك التاريخ، وحتى مطلع صيف 2016، تاريخ إعفاء أديب ميالة من منصبه، كانت سنوات أربع حافلة بتدخل المركزي في السوق. حيث كان ميالة، يعقد جلسات تدخل شهيرة، يستدعي فيها مدراء شركات ومكاتب الصرافة، ويضخ عبرهم دولارات المركزي في السوق، فيبيعونها للتجار، وأحياناً لغير التجار، بأسعار أقل قليلاً من السعر الرائج للدولار في السوق السوداء، فينخفض هذا الأخير، وبالتالي، ينخفض سعر “دولار الحوالات” الذي يتلقاه السوريون عبر قنوات مكاتب الصرافة، والذي كان يذهب للمركزي ذاته، إذ كانت شركات الصرافة تُسلّم الحوالات بالليرة السورية حصراً، وفق تعليمات المركزي. وتسلّم الدولار الواصل إليها، من خلال تلك الحوالات، للمركزي. وهكذا كان الأخير، عبر ضخ بضعة ملايين من الدولارات في السوق، يخفض السعر الرائج لدولار السوق السوداء، ومن ثم السعر الرائج لـ “دولار الحوالات”، وبالتالي يحصل على الدولار القادم عبر تلك الحوالات، بسعر رخيص. وكانت الحوالات تقدّر، حسب ميالة حينها، ما بين 3 إلى 7 مليون دولار يومياً. بمعنى آخر، كان المركزي يضخ بضعة ملايين من الدولارات، ليسترد عشرات الملايين من الدولارات، بسعر رخيص. وهكذا يخرج من هذه العملية، بحصيلة من ملايين الدولارات، تدخل إلى خزينته. وبعد أن تنتهي هذه الجولة، يمسك المركزي الدولار عن السوق، فيرتفع مجدداً، ليعود ويضخ الدولار في السوق، بسعر أعلى من السابق، وهكذا يحقق هدفين في آن، يتحكم بسعر الدولار في السوق، وفي الوقت نفسه، يحقق أرباحاً عبر المتاجرة بالدولار، فيشتري بسعر رخيص، ويبيع بسعر مرتفع. يومها، شاع وصف بين التجار الناشطين في سوق العملة، للعبة المركزي تلك، إذ أسموها لعبة “لمّ الدولار” من السوق. وتكررت هذه العملية مرات عديدة، في السنوات الأربع التي أشرنا إليها.

لكن تلك الحقبة انتهت مع تولي دريد درغام إدارة المركزي في مطلع صيف 2016، لتبدأ حقبة جديدة شاعت فيها الاتهامات لـ ميالة، بأنه أفرغ خزينة المركزي من الدولارات، فتلك الخزينة التي كانت تضم حوالي 17 مليار دولار عام 2011، باتت تحتوي عام 2016 حوالي 700 مليون دولار فقط، وفق تقديرات البنك الدولي في ذلك التاريخ. لكن أحداً لم يكن يجرؤ على الحديث عن سرّ فراغ خزينة المركزي من الدولار، رغم أنه كان يتاجر بالعملة، ويحقق الأرباح. فكان يحلو لمنظّري الإعلام الموالي، اتهام ميالة بأنه أنفق خزينة المركزي بغية لجم انهيار سعر صرف الليرة السورية معتبرين استراتيجيته في التدخل بالسوق عبر ضخ الدولار، خاطئة. لكن الحقيقة كانت في مكانٍ آخر، وهي أن تمويل آلة حرب النظام، التي كانت تعني إنفاقاً هائلاً على الوقود وعلى تمويل المقاتلين والذخيرة، وغيرها من التكاليف، في وقتٍ كانت فيه المناطق التي تحتوي على الموارد الرئيسية في البلاد، وفي مقدمتها النفط، قد أصبحت خارج سيطرة النظام، كان تمويل هذه الآلة الحربية، يتطلب زخماً من الدولارات. لذلك، رغم كل الاتهامات الإعلامية التي طالت أديب ميالة، لم يتعرض الرجل لأي مساءلة حكومية، أو إجراء سلبي من جانب نظام الأسد، بل على العكس، عيّنه النظام، وزيراً للاقتصاد، لمدة سنة، قبل أن يخرج من العمل الحكومي تماماً، ليتفرغ لعالم البزنس، ويؤسس شركة خاصة للاستشارات المالية، حاله كحال معظم رجالات النظام المُخلصين، الذين يحتفظون بأسرار “قذرة”، لكنهم يحظون في الوقت نفسه، بثقة النظام، بصورة تجعلهم يخرجون من هذا العالم، بأمان وسلاسة، وبثروة مالية كبيرة.

اليوم، يحتوي المشهد الراهن في سوق العملة، بعضاً من مقدمات لعبة “لمّ” الدولار من السوق. فالمركزي ضخ الدولار عبر شركات صرافة محددة في السوق، وعرضها على التجار والصناعيين المستوردين، بأسعار أقل من السوق السوداء، فانخفض الدولار في السوق، وانخفض معه سعر تصريف “دولار الحوالات”، وفي الوقت نفسه، أتاح المركزي لشركات الصرافة ذاتها، تسليم الحوالات للسوريين بأسعار أعلى من السعر الرسمي بكثير، الأمر الذي أعاد الحوالات إلى قنوات مكاتب الصرافة المتعاملة مع المركزي، ما يعني أن المركزي سيحصل على الدولار مجدداً من الحوالات. وسيستمر هذا المشهد حتى نهاية شهر رمضان، الذي تصل فيه قيمة الحوالات إلى 10 ملايين دولارات يومياً، وفق تقديرات خبراء.

وهنا، سيكون السؤال: ماذا سيحدث لسعر الصرف بعد عيد الفطر؟ الجواب في احتمالين، الأول، أن يبقى تحرك هذا السعر ضمن هوامش محدودة في حالة استقرار نسبي، تفيد المستهلك السوري، إذ تؤدي إلى استقرار أسعار السلع. وحينها، نستطيع أن نقرّ لإدارة النظام بالنجاح في لجم التضخم المفرط الذي لحق بأسعار السلع، مع انفلات سعر الصرف من عقاله. لكن تحقيق ذلك يتطلب شرطاً صعباً، وهو استمرار ضخ الدولارات عبر مكاتب الصرافة لتُباع للتجار والمستوردين بسعر دولار منخفض (أقل من السوق السوداء). وهو أمر لطالما عجز النظام عن المداومة عليه، لأنه يعني استنزاف احتياطي المركزي من العملة الصعبة، مما يحيلنا للاحتمال الثاني الأكثر ترجيحاً، وهو ارتفاع الدولار مجدداً، وعودة حالة التذبذب في سعر الصرف، وما ينتج عنها من تضخم، ينعكس سلباً على المستهلك السوري. إذا حدث الاحتمال الأخير، نستطيع يومها أن نجزم، أن ما يحدث الآن في رمضان، كان مجرد لعبة للـ “لمّ” الدولار من السوق، يديرها محترفو المركزي، الذين تربوا على يدَي، أديب ميالة. ونستطيع أن نقول بكل ثقة، أن عهد ميالة، واستراتيجياته، قد عاد من جديد. وهو عهد عنوانه باختصار، إن كنت عاجزاً عن مواجهة الدولار، لماذا لا تتاجر فيه!

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا