لماذا لا تستثمر الصين في سوريا؟

في شباط/فبراير من العام 2018، نشرت صحيفة “China Daily” الصينية الناطقة بالإنكليزية، تقريراً بعنوان “الصين تمد يد العون لإعادة بناء سوريا”. الصحيفة التي عادةً ما تنشر توجهات الحكومة الصينية، تحدثت يومها بإسهاب، عن الدور الاقتصادي الصيني المرتقب في سوريا، “بعد الحرب”. وأشارت إلى ذاك التعهد الرسمي الصيني الذي أُطلق في تموز/يوليو 2017، باستثمار 2 مليار دولار، لإنشاء مجمعات صناعية في سوريا. وهو التعهد، الذي لم يُبصر النور، حتى يومنا هذا.

مناسبة هذا الحديث، ذاك الترويج لآثار اقتصادية كبرى مرتقبة للانفتاح العربي على نظام الأسد. حتى أن الصناعيّ عاطف طيفور، قال عبر صحيفة “الوطن” الموالية، إن سوريا ستتحول إلى ورشة عمل دولية في فترة قريبة، وبفرص استثمارية لا متناهية. فيما قال صناعيّ آخر، إن سوريا تُعتبر قلب المنطقة، لما لها من موقع وباعتبارها وسيطاً صناعياً وتجارياً. لكن الحذر الصيني المفرط من الاستثمار في سوريا، لا يدعم وجهة النظر تلك.

وهو ما عبّر عنه خبراء اقتصاديون، وعبر الإعلام الموالي أيضاً، مشيرين إلى العلل التي تجعل سوريا بلداً غير جذّاب للمستثمر الأجنبي، من قبيل، نقص السيولة الداخلية، والضعف الشديد للقوة الشرائية، وغياب البيئة الاقتصادية التشريعية والمناخ الاستثماري المناسب.

إلا أن تلك الأصوات الموضوعية، تضيع، عادةً، في زحمة مسوّقي بروباغندا النظام. إذ يتم التركيز على تأثير العقوبات الغربية، بوصفها المشكلة الرئيسية. ورغم الأثر الذي لا يمكن إنكاره لتلك العقوبات، إلا أن عاملاً آخر، لا يقل تأثيراً، يتم تجاهله، في معظم الأحيان. فتدني سلامة الاستثمار في سوريا، لأسباب داخلية بحتة، يشكّل أبرز عائق يمكن أن يجعل الاستثمارات الخارجية تحجم عن القدوم إلى سوريا، حتى لو أُزيل سيف العقوبات الغربية عن أعناق الراغبين بالاستثمار في هذا البلد.

وفي تقرير لافت، نشره مركز كارنيغي عام 2019، تحدث رجال أعمال سوريون في بلدان الجوار، عن أسباب تلكؤهم في العودة للاستثمار في بلدهم، رغم هدوء جبهات القتال. تلك الأسباب التي ذكرها التقرير منذ أربع سنوات، ما تزال قائمة حتى يومنا هذا. بل وتعززت بصورة أدت إلى هجرة لافتة لرأس المال المحلي، منذ نحو سنتين، إلى مصر.

وقد لفت التقرير إلى معيار مهم للإجابة على سؤال: متى تصبح سوريا على طريق تحقيق “وضع اقتصادي سويّ”؟ إذ يعتمد ذلك على استئناف الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم التي كانت تشكّل قبل العام 2011، 95% من إجمالي الاقتصاد السوري. أي أن الرهان الذي يتم الترويج له عبر إعلام النظام، للاستثمار الأجنبي “الضخم”، بوصفه وسيلة للخروج من نفق الاقتصاد المُعتم، ليس دقيقاً، بالمطلق.

وعلى مدار السنوات الأربع منذ صدور تقرير “كارنيغي”، ما تزال مساعي استئناف الأعمال الصغيرة والمتوسطة الحجم في سوريا، تبوء بالإحباط، وتعكس اتجاهها نحو هجرة مستدامة لرأس المال المحلي. فأزمات المحروقات، ودوامة التضخم، ومشكلات سعر الصرف، ناهيك عن إتاوات المتنفذين وحواجز الميليشيات وأجهزة النظام، وعراقيل السلطة وجباياتها الضريبية غير الرشيدة.. كل ذلك، كان أشد تأثيراً على جعل سوريا طاردة لرأس المال المحلي، أكثر بكثير من أثر العقوبات الغربية التي أتقن السوريون فنون الالتفاف عليها.

ما سبق، يقدم إجابة شافية لسبب انكفاء الاستثمار الأجنبي، عن البلاد، حتى من جانب الحلفاء التقليديين لنظام الأسد، وفي مقدمتهم الصين. وفي ذلك، يمكن الإحالة إلى تقرير بحثي، أعده مركز تحليل وبحوث العمليات (COAR)، في تموز/يوليو 2022. إذ حتى بعد أن أصبحت سوريا، رسمياً، منذ كانون الثاني/يناير 2022، جزءاً من مبادرة “الحزام والطريق” الصينية، لم ينعكس ذلك استثماراً صينياً نوعياً، لا من جانب الدولة، ولا من جانب القطاع الخاص.

ومنذ العام 2017، بدأ بشار الأسد يغازل الصين، استثمارياً. واعداً إياها بالأفضلية إلى جانب روسيا وإيران. وفي عام 2019، غازل الأسد، في مقابلة تلفزيونية، الصين، مجدداً. وجاء ذلك، بالتزامن مع مسعى صيني رسمي، لتشجيع المستثمرين الصينيين على الدخول للسوق السورية. لكن ذلك لم يؤتِ ثماره. وفي تلك المقابلة، أقرّ الأسد بالبعد الداخلي الطارد للاستثمار الأجنبي. واعترف بوجود مخاوف أمنية ما تزال قائمة، وغموض متعلق بالضرائب وحقوق المستثمرين وسواه. لكنه تعهد بتجاوز تلك العوائق. إلا أن شيئاً مما سبق لم يتغير في البلد الذي صنّفه البنك الدولي، عام 2019، قريباً من قاع الترتيب العالمي للدول، من حيث سهولة ممارسة الأعمال التجارية.

ورغم أن الشركات الصينية عادةً ما تعمل في دول تعاني مؤسساتها من الضعف والمساءلة المحدودة، إلا أنه في الحالة السورية، لم تُبد تلك الشركات استعداداً للمجازفة. ورغم الإقرار بأثر العقوبات الغربية وحجم النفوذ الروسي والإيراني، في تشكيل حالة النفور الصيني من الاستثمار في سوريا، إلا أن عوامل داخلية كالفساد، ودور أمراء الحرب ومليشياتهم، ودور المتنفذين في النشاط الاقتصادي، وتدني دور القانون في حماية المصالح، كل ذلك، يعزز من حالة النفور الصيني، تلك.

تقرير مركز تحليل وبحوث العمليات (COAR)، المشار إليه، خلص إلى أن هناك شروطاً قد تجعل سوريا جذّابة للمستثمر الخارجي. من أبرزها، زيادة القدرة الشرائية للسوريين، وبدء نشاطات إعادة الإعمار، وإنهاء العزلة الإقليمية، بصورة تجعل البلاد، مُصدِّراً فعالاً للسلع المصنّعة. وإن كان إنهاء العزلة الإقليمية، أمراً وارداً في ضوء التطورات الأخيرة، يبقى أن العوامل الأخرى عالقة. فزيادة القوة الشرائية للسوريين، تتطلب معجزة مالية غير متوفرة في الأمد القريب. من دون أن ننسى التكاليف الاستثنائية الناجمة عن اقتصاد التهريب والميليشيات والفوضى، التي تجعل المُنتَج المحلي السوري، أغلى من نظرائه في معظم دول الجوار. وهو ما يجعل دولة كالصين تنكفئ عن الاستثمار الجدّي في سوريا. فهل يُعقل، والحالة كهذه، الرهان على استثمارات خليجية نوعية، في بيئة استثمارية تحمل هذه المواصفات!

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا