لم يبق سواها.. ثروة السوريين العقارية بين أنياب النظام

انقضّ نظام الأسد المفلس، على الثروة العقارية للسوريين، والتي لم يبق في البلاد سواها، بعد تهيئة شتى الظروف لدفعهم إلى التخلي عنها، أو لانتزاعها منهم والتصرف فيها ببيعها أو استثمارها أو منحها لطرف ثالث من حُماته، أو حتى وضع اليد عليها تحسباً لعملية إعادة إعمار ما، ستكون خلالها “الأرض” هي مفتاح السيطرة على وجهة المساعدات المحتملة. ولسياسات النظام في هذا المضمار شقّان: الأول، هو تهجير السكان المعارضين وطردهم من بيوتهم وأراضيهم ووضع اليد عليها. والثاني، إصدار المراسيم والقوانين التي تحكم قبضته على كل شبر ممكن منها.

منذ بداية الثورة السورية قرر النظام أن لا مكان للذين يعارضونه في سوريا، وأصدر سلسلة من القوانين التي تناقض مبادئ الدستور وتهدف لمصادرة عقاراتهم. أوّلها، مجموعة تعميمات لمجلس الوزراء قضت باشتراط الموافقة الأمنية المسبقة على أي عملية بيع عقارية. وأعقب ذلك صدور قانون مكافحة الإرهاب الرقم 19 للعام 2012 والذي يتيح وضع اليد على كل من تُلصق به تهمة الإرهاب، مهما كان حجمها ونوعها، وسواء أكان المتهم بالغاً أم حدثاً، ومن دون منح المتهم إمكانية الدفاع عن النفس بالطعن في الحكم أو الاستئناف.

وفي العام  ذاته صدر المرسوم الرقم 66، الذي سمح لمحافظة دمشق إقامة منطقتين تنظيميتين ضمن حدودها الإدارية، ما تسبب في طرد السكان من مناطق واسعة في العاصمة، بعضها عشوائي، لإنشاء مدينتي “ماروتا” و”باسيليا”. تلك المناطق تعرضت لدمار كبير نتيجة القصف الجوي والمدفعي المركّز من قبل قوات النظام، بعد صدور المرسوم المذكور. وفي العام 2018 صدر القانون الرقم 10، الذي وسّع نطاق تنفيذ المرسوم 66\2012 ليشمل جميع الوحدات الإدارية، ونصَّ على وجوب حضور المالكين أو أقاربهم شخصياً لتقديم إثباتات الملكية. بمعنى آخر، أي شخص مطلوب لنظام الأسد سيفقد ملكيته أو يقدم نفسه ليفقد حريته أو حياته حتى.

في العام 2021 صدر قانون البيوع العقارية الرقم 15، القاضي بتقدير قيم العقارات وفق أسعار السوق الرائجة وزيادة الضرائب العقارية عليها. وأعقب ذلك اشتراط الموافقة الأمنية المسبقة للحصول على الوكالة القضائية لإدارة أملاك الغائب.

على الصعيد الميداني، عرقل النظام عودة النازحين إلى كافة بؤر المعارضة الرئيسية، رغم انتفاء أسباب النزوح منذ سنوات. وما زالت قوات النظام تمنع، على سبيل المثال لا الحصر، عودة النازحين إلى زملكا والقابون ومخيم اليرموك والحسينية والحجر الأسود. كما تمنع ترميم وتأهيل العقارات المتضررة بفعل القصف، والتي لم يغادرها قاطنوها، مثل مدينة تلبيسة في ريف حمص الشمالي. ومن ناحية أخرى، يلجأ النظام إلى عمليات الهدم في المناطق التي يصعب عليه إيجاد ذريعة قانونية لاستملاكها، كما في مدينة حمص، بحجّة أنها آيلة للسقوط.

وابتكر النظام فكرة “استثمار أراضي الغائبين”، للاستيلاء على الأراضي الزراعية الأميرية للمُهجّرين قسرياً، كما يحدث في حماة وإدلب وحلب ودير الزور، حيث يتم الاستيلاء من دون دفع أي تعويض لمالكي الأرض، وهم في جلّهم من المعارضين النازحين إلى خارج مناطق سيطرته. من ناحية أخرى، سمح النظام للمليشيات الأجنبية بالتصرف على هواها في المناطق الواقعة تحت سيطرتها، وقد استولت المليشيات الإيرانية، مثلاً، على بلدة المطاردة في منطقة البوكمال بريف دير الزور الشرقي. كما استولت منظمة تسمي نفسها “الوقف الشيعي” على عقارات لغائبين في دير الزور وحوّلتها إلى مقرات تابعة لها. ويغدو هذا الإجراء أشد خطورة عندما يقترن بتعديلات قانون تملك الأجانب الرقم 11 للعام 2011، والذي سهّل تملك هؤلاء لعقارات في سوريا.

إن سيطرة نظام الأسد على العقارات والأراضي وسوقها، سيمكّنه من دفع ضرائب حمايته لمختلف الأطراف على الأقل، فهو يضع بين يدي جهازه الأمني العسكري الشره، مصدر تمويل دائم، سواء عبر تحصيل مبالغ هائلة من العمولات والرشى المفروضة بعد ربط هذا السوق كلياً بالموافقة الأمنية، أو من خلال متاجرة أمراء الحرب وقادة أجهزة النظام في هذا السوق بشكل مباشر وتدوير ثرواتهم الهائلة. كما أن الأراضي تمثل أولوية قصوى لإيران ومليشياتها المتعددة، لأسباب تتعلق باستراتيجية التوسع والاحتلال المتدرج لدى طهران، وهي لن تمانع إن سدَّد النظام ديونه لها، أرضاً وعقارات. بدورها، لن تتعفف روسيا عن استرجاع استثمارها السياسي والعسكري في هذا البلد على هذا النحو، وقد تدخل الصين المتعطشة أيضاً على خط التملّك. وتبقى عيون هذه الأطراف كافة، على إعادة الإعمار المأمولة، والتي ستقوم في النهاية ومهما كان نوعها، على أراضٍ يملكها هذا الطرف أو ذاك، وينتفع بجانب من عوائدها.. هذا إذا لم يتم تجيير كل تلك العوائد لصالح النظام وحلفائه ووكلائه.

لدى نظام الأسد في هذا المضمار تجربتين بارزتين. الأولى، هي تدمير أحياء حماة التاريخية مطلع الثمانينيات، وإعادة بنائها وفق هندسة اجتماعية مناسبة له، وقد عادت عليه بفوائد واضحة، لعل أبرزها السيطرة على هذه المدينة في مرحلة الثورة، على عكس ما كان متوقعاً. والتجربة الأخرى هي نزع مُلكيّات الأكراد في منطقة الحسكة، وإحلال عشائر عربية في مكانهم، الأمر الذي ما زال أحد أسباب منع قيام تحالف عربي كردي ضده في هذه المنطقة الحساسة.

لقد نُظِر، عبر التاريخ، إلى خسارة الأرض على أنها علامة الهزيمة الرئيسية، ويريد نظام الأسد أن يثبت أنه ألحَق الهزيمة بالشعب السوري من خلال سلب عقاراتهم وجعلهم شعباً بلا أرض، وتالياً بلا حقوق. ويريد، من ناحية أخرى، أن يجعل من تلك العقارات سفينة نجاة وبقاء له. لكن دروس التاريخ تعلمنا أيضاً أن الأرض كانت على الدوام منطلق ومحفّز التفجر المستمر للصراعات والحروب. وبمعنى آخر، يؤسس نظام الأسد من خلال عبثه وتلاعبه الخطير بالملكية العقارية، لاحتراب اجتماعي طويل الأمد، يستكمل فصول المأساة التي حلت بهذا الشعب منذ وصول حافظ الأسد إلى السلطة، والتي يقرنها السوريون، مع كثير من الوجاهة في ما يذهبون إليه، مع تسليمه “أرض” الجولان لإسرائيل بلا قتال.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا