مآلات جبهة السلام والحرية في شرق الفرات

تحرّكت المياه الراكدة في المسرح السياسي لشرق الفرات في سورية، عبر حدثين متداخلين في التوقيت والتوجهات، ففي فبراير/ شباط الماضي بدأت حوارات بين المجلس الوطني الكُردي والمنظمة الأثورية وتيار الغد والمجلس العربي للجزيرة والفرات، لتشكيل جسم سياسي برؤيةٍ موحدةٍ بشأن مصير المنطقة. تزامن معه بدء الحوار الكُردي – الكُردي برعاية الولايات المتحدة، ثم فرنسا. وكانت السرّية والكتمان العنوان الأبرز لهما، إلى أن أعلن عن اتفاق الكُرد على رؤية سياسية موحدة، ثم ما جاء إعلان جبهة السلام والحرية، في 29 الشهر الماضي (يوليو/ تموز)، من مؤشرات على إمكانية أن تتحول هذه الجبهة، بعد توسيعها، إلى منصة مستقلة تمثل مكونات المنطقة، بما فيها دير الزور والرّقة، حيث غالبية العشائر العربية المنضوية في المجلس العربي هم من عشائر الرقة ودير الزور وعشائر من العرب في الحسكة. أول المؤشرات أن ما تم هو من الأحداث السورية البارزة خلال السنوات الماضية، حيث لا تدخلات خارجية، ولا اعتراضات إقليمية، ولا توجيهات عابرة للحدود السورية، وهو ما كان واضحاً في وثيقة الإعلان عن التأسيس، والتمسّك بالقرار السوري الداخلي، وبل جاء نتيجة لحوار المكونات في شرق الفرات، وستشهد الجبهة توسيعاً في عدد المكونات، في حال نجاح الحوار الكُردي – الكُردي، حيث ضم “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) إليها، بعد إعادة فك الإدارة الذاتية وتركيبها، لتمثل مكونات المنطقة بشكل منطقي وحقيقي، واحتمال أن تتحوّل إلى منصةٍ مستقلةٍ ضمن أروقة المعارضة، وهو ما سيعني إمكانية إيجاد جسم سياسي معارض جديد، يقوم على أنقاض الائتلاف السوري المعارض.

وثاني المؤشرات أن الجسد السياسي الجديد سيشكل ورقة ضاغطة في إحداث تغيرات في موازين القوى داخل أروقة المعارضة السورية، فالكُرد والآشوريون يملكون أربع ممثلين مناصفة، وخمس أعضاء لمنصة القاهرة ضمن اللجنة الدستورية، إضافة إلى وجود الأطر الثلاثة في هيئات التفاوض، ويبلغ عدد ممثلي منصة القاهرة أربعة أعضاء، إضافة إلى عضو للمجلس الكردي ومثله للمنظمة الأثورية، ما يعني تشكيل قوة سياسية تتمكّن من خلط الأوراق، وإعادة إيجاد تموضعات جديدة ضمن المعارضة السورية، سواء براهنيتها الحالية، أو في حال التوجه صوب إيجاد كتلة سياسية جديدة للمعارضة السورية.

وثالث المؤشرات أن الجبهة الجديدة لن تتعرّض لأي اهتزاز أو ضغوط إقليمية أو دولية، فهي تؤكد على الحل السياسي لسورية وفق قرار مجلس الأمن 2254، ما يعني عدّم الاعتراض الأميركي والتركي على تشكيله.

رافقت تلك المؤشّرات ثلاثة متغيرات، تتجه صوب خدمة أبناء المنطقة، في مقدمتها أن من أولويات هذه الجبهة السعي نحو تغيير النمطية السائدة لدى المكون العربي تجاه الكُرد، فالغلّ والاحتقان الحاصل نتيجة جملةٍ من المعطيات تجاه الكُرد، وزيادة حدّية التخاطب العربي تجاه الكُرد، ونجاح بعض وسائل الإعلام في حملات دعائية مستندة على عدم تقبل الآخر فكرا، متأسسان لدى شرائح عديدة ضمن المعارضة العربية، إضافة إلى حالة العداء العربي ضد “قسد” والإدارة الذاتية. نقل القضية الكُردية من حالة المظلومية إلى حالة الظالمة، وفق تصوراتهم هم، والأسوأ إنها لم تختص بعرب شرق الفرات فحسب، وبل اتسعت لتشمل قطاعات وكيانات وشرائح مختلفة من المكون العربي في سورية، على الرغم من عدالة القضية الكُردية ومظلوميتها الحقة. لذا إن وجود ممثلين عن أغلب العشائر العربية في مناطق كدير الزور والرقة وجزء من عرب الحسكة، مع ما يمثله أحمد الجربا بوصفه شخصية سياسية مقربة من تركيا ومصر والسعودية والكُرد والمسيحيين، يُمكن لها أن تكسر الجليد السميك الذي فصل بين المكونيْن العربي والكُردي، ويقي المنطقة من حرب عرقية، عملت جهاتٌ عديدة على إنتاجها وتغذيتها وتأجيج نارها.

والمتغير الثاني الذي جاءت به هذه الجبهة، لأول مرة يتحد مكونا المنطقة ضمن إطار سياسي، إذ لا أحزاب ولا كيانات سياسية معتبرة للعرب في عموم شرق الفرات، باستثناء العشائر العربية التي لا يمكن الاعتماد عليها بوصفها أطرا سياسية ذات شخصية اعتبارية.

المتغير الثالث المتعلق بالحوار الكُردي – الكُردي في سورية إن التوصل إلى نتيجة مُرضية، وإعادة التعريف بالهويّة السياسية والعسكرية لـ “قسد”، ستستتبعه إعادة هيكلة هذه القوات مع قوات بشمركة روج آفا وقوات النخبة العربية، وأبناء العشائر العربية، والآشوريين. وبغض النظر عن النسبة والتناسب ضمن الجيش المتوقع تشكيله، فإن نجاح هذا الإطار مع نجاح المساعي الأميركية لتوحيد الرؤية السياسية الكُردية، سيدفع صوب إعطاء ومنح خصوصية مغايرة عن كل سورية، وليس بعيدا أن تتحول هذه المنطقة إلى إقليم فيدرالي خاص، بعد موافقة السوريين، وإنْ كان يبدو صعباً نوعاً ما، على مستوى التسمية بالحد الأدنى من الصعوبة.

ترافق ذلك كله ثلاثة محددات للعملية السياسية السورية، أولها أن حالة الاستعصاء السياسي في سورية متجهة صوب الحل، والمتوقع أن يكون وفق القرار 2254، وإعادة إحياء مسار جنيف. وقد كسر هذا التشكيل السياسي الجديد النمطية التي تماهى معها الناس، وتحديداً في شرق الفرات، فإن هذا الجسم سيعني منافسةً قوية على الصعيد السياسي والتمثيل الشعبي لمكونات شرق الفرات أمام “مجلس سوريا الديمقراطية”، والإدارة الذاتية، حيث أدى غياب الغطاء الدولي عن “قسد” في معركتي غصن الزيتون ونبع السلام إلى إنهاء أي وجودٍ لتلك الكيانات في جغرافية المعركتين، إضافة إلى مناطق درع الفرات. ويعني هذا أن قضية التمثيل والتعبير عن مآلات المنطقة ما عادت مرتبطة بمن يمسك الأرض حاليا، وإن كانت المؤشرات كُلها تتجه صوب أن لا مزيد من الحرب، ولا تدخل تركياً في ما تبقى من شرق الفرات، إلا أن الغياب عن مسارات الحل السياسي التي رسمتها الفواعل الرئيسية في سورية سيعني مزيداً من الإنهاء للسلاح خارج المتفق عليه، ومزيداً من العزلة على الأطراف غير الموجودة في مسار الحل السياسي.

والمحدّد الثاني أن الأطراف اتفقت على اللامركزية من دون تحديد نوعها، ورُبما نجد لامركزية للأطراف كافة، إذ من الصعب جداً إعادة اللحمة السورية كما كانت قبل 2011. يعود هذا الطرح (اللامركزية)، في أحد أقوى أسبابه، إلى فوبيا الفيدرالية لدى عموم السوريين. ومن المحتمل أن نجد نظاما سياسيا لا مركزياً يمنح الأطراف حرية تشكيل هيئات تشريعية، وقضائية، وبرلمانية، وتشكيل برلمان مركزي بنظام الغرفتين.. إلخ، خصوصا أن نمطية التفكير لدى عموم السوريين أن الفيدرالية تعني التقسيم والانفصال.

المحدّد الثالث يخص الكُرد أكثر، وتحديداً المجلس الوطني الكُردي، فإن البنود الواردة في المبادئ العامة والأساسية، وإنْ تطالب بتثبيت دستوري للحقوق الكُردية، وضمان تمثيلهم البرلماني و… إلخ، لكن أعمق مشكلتين تتبلوران خلف هذه الوثيقة، تأتيان أولاً من التسمية التي لم تشر أبداً إلى ما يرمز إلى كُردية المنطقة، ومردّها على ما يبدو البحث عن مشتركات وتقاطعات مع باقي المكونات، لإيجاد ظرفٍ سياسي جديد. وربما كمرحلة أولية يُمكن التغاضي عن هذه النقطة. لكن في أثناء كتابة الدستور أو المرحلة المقبلة، سيعرّض غياب ما يُشير إلى ذلك المجلس الكُردي إلى إحراج وضغوط عميقة وكبيرة. والثاني: تم اعتبار المنطقة الكُردية في سورية وحدة جغرافية سياسية متصلة في الحوار الكردي – الكردي، في حين إنها تصطدم مع عدم تحديد أيَّ جغرافية سياسية للوجود الكردي في سورية، ضمن وثيقة جبهة السلام والحرية. وفيما لو نجح الحوار الكُردي، ووصل إلى خواتيمه، وانضمت “قسد” للجسد السياسي الجديد (السلام والحرية) ربما تكون الجبهة أو الوثائق الكُردية أمام تغيرات جذرية عميقة جديدة.

تتجه مكونات شرق الفرات إلى لم شملها في موقف سياسي موحد، وهي خطوة ستكتمل أكثر عبر نجاح الحوار الكُردي – الكُردي، وما يتطلبه من حصر القرار والوجود بالهويّات السورية فحسب، وإن كان العام الحالي (2020) يُعتبر بداية الحل السياسي لسورية، فإن الموقف الكُردي في الحفاظ على خصوصيته القومية جيوسياسياً يتطلب مزيدا من عقد الصلات والحوارات، وحتى الاتفاقيات مع الأحزاب العربية خارج الجغرافية التي يعيش فيها.

المصدر العربي.الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا