ماكرون.. لا كما نشتهي

كان مشهداً مؤثراً بحق، عندما ظهر ماكرون في زيارته الأولى وسط اللبنانيين المتضررين من انفجار المرفأ، والمتضررين قبله من الطبقة السياسية برمتها. كانت اللحظة عاطفية، وقوة العاطفة ربما هي ما تغلّب على طبع الزائر الفرنسي، وبانسياقه قليلاً معها ظهر في أفضل أحواله. ثم أتت ملاحظاته القاسية إلى المسؤولين اللبنانيين لتضعه في مرتبة المنقذ المنتَظر، ليساعده هؤلاء الذين لم يستفيقوا من عار الانفجار بتصاغرهم أو صغرهم، فيحلق كسوبر ماكرون.

قبيل عودته إلى لبنان، مهّد ماكرون بتصريح يزخر بالمبالغة، خاصة تحذيره من اندلاع حرب أهلية لبنانية. كأنه الإطفائي الذي سيذهب لمنع نشوبها، وعندما يكون الخطر على هذا المستوى تتقدم أولوية استبعاده على السؤال عن الكيفية التي يُستبعد بها. الأهم أن المنقذ سيعود إلى بلاده وقد منع تلك الحرب المزعومة، وأجبر المسؤولين اللبنانيين القاصرين على تشكيل حكومة، ولا عزاء للّبنانيين الذين توسموا نتائج مغايرة بناء على الزيارة الأولى.

ماذا يعني تشكيل حكومة بالنسبة لماكرون؟

غداة تنصيبه رئيساً يقدّم نفسه ممثلاً للوسط، اختار ماكرون إدوار فيليب رئيساً للحكومة التي ضمت مجموعة من الوزراء مختلفي الأهواء والمشارب، أراد من خلالها تقديم نفسه كزعامة جامعة يميناً ويساراً ووسطاً، على حساب تشكيل فريق حكومي منسجم حامل لمشروع تغيير حقيقي. خلال ثلاث سنوات ارتفعت شعبية إدوار فيليب بحيث قد يكون منافساً محتملاً في انتخابات الرئاسة، فأقصاه ماكرون عن رئاسة الحكومة، وأتى بدلاً منه بجان كاستيكس، الشخصية اليمينية المغمورة، المحسوبة على تيار ساركوزي بينما كان سلفه محسوباً على تيار آلان جوبيه. في حكومة كاستيكس، سيغازل أيضاً الخضر الذين تقدموا في الانتخابات البلدية، ومرة أخرى سيكون سعي الرئيس إلى استمالة قواعدهم من أجل الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة هو الرابط الأهم الذي يجمع الوزراء متنوعي المشارب.

في حملته السابقة للفوز بالرئاسة، قدّم ماكرون نفسه ديغولاً جديداً، ويُسجّل للأخير كما نعلم فضل تحرير فرنسا، ولم تمنعه يمينيته من أن يكون مؤسساً للعديد من المنجزات ذات البعد الاجتماعي العام. لكن سرعان ما سيكتسب ماكرون سمعة “رئيس الأثرياء”، مع وجود من يجادلون على سبيل الطرافة بوصفه “رئيس الأثرياء جداً”. كدليل على فشل سياساته، ستبرز حركة السترات الصفراء بعد حوالى سنة من توليه الرئاسة، لتقوى خلال أشهر وتكتسب شعبية واسعة. حاول ماكرون الالتفاف على الحركة بإطلاق جولات من الحوار الوطني، لم تكن جادة وصارت منسية مع تحرك وإضرابات العديد من النقابات، أشهرها إضراب نقابات عمال النقل الذي تسبب بخسائر اقتصادية ضخمة تُضاف إلى نظيرتها التي تسببت بها حركة السترات الصفراء.

أثناء المواجهتين، مع السترات الصفراء ثم النقابات، أبى تقديم تنازلات، ما يذكّر ربما بتاتشر أكثر من ديغول، لتعقُبَ الإضرابات موجة كورونا وتؤثر على مجمل الحياة السياسية التي كان من المعتاد أن تشهد عودة وانتعاشاً مع انتهاء موسم الإجازات الصيفية. لا تُعرف حتى الآن آثار كورونا على الانتخابات الرئاسية عام2022، لكن ماكرون يعود إلى لبنان وفرنسا تتصدر الدول الأوروبية بعدد ضخم من الإصابات المسجلة يومياً، والمفارقة أنه مع نهاية الأسبوع الثاني من حزيران أعلن “بلا حذر” الانتصار على الوباء، بينما على سبيل المثال تحاشت ميركل مجرد التباهي بالنجاح رغم نجاعة سياساتها معطوفة على الإمكانيات الضخمة، ولئن كان ماكرون لا يتحمل مسؤولية عقود من تراجع القطاع الصحي فهو بالتأكيد ليس في موقع من يعلن النصر.

على صعيد متصل بكورونا، يُسجَّل لماكرون سعيه للاتفاق على رزمة الإنقاذ المالي التي أقرها الاتحاد الأوروبي، وكانت مطلوبة لإنقاذ الاتحاد نفسه بعد تشكي دوله الأفقر من عدم تحرك الاتحاد لمساعدتها في الأزمة، وبدء التشكيك في جدوى بقائه. على العموم، يُسجَّل له تمسكه بالاتحاد الذي ربما كان في وضع سيء جداً لولا إصرار برلين وباريس على بقائه، خاصة مع الخروج البريطاني والدعوات المماثلة من اليمين المتطرف الأوروبي. إلا أن التشبث بالاتحاد ليس بالسياسة الخارجية التي تكفي ماكرون، مع عدم وجود أفق لإنجازات داخلية، لذا برز مؤخراً ذلك الاهتمام المتوسطي الذي لم يكن حاضراً في أولوياته، ولا مشروع متوسطياً يطرحه على غرار ما فشل فيه ساركوزي.

قبل تحذيره من حرب أهلية لبنانية، كان مفاجئاً تحذير ماكرون من الأطماع التركية في لبنان، التحذير الذي يضيف تعقيداً إلى وضع زاخر أصلاً بالتعقيدات، من دون وجود رابط بارز بينه وبين الواقع سوى المواجهة الفرنسية-التركية الممتدة من ليبيا إلى الحدود البحرية بين اليونان وتركيا. والتحذير أتى كأنما ليحاكي العوامل التي كانت وراء نشوء لبنان، على الرغم من تغير كافة الظروف وتغير اللاعبين الأساسيين المؤثرين في ساحته، بحيث لا فائدة من المحاكاة سوى التذكير بـ”الفضل” الفرنسي، واسترجاع عصبيات قديمة حلّت مكانها عصبيات جديدة.

لن يكون مستغرباً أن ينتهي الاستعراض الفرنسي على حصيلة هزيلة جداً بالمقارنة مع العواطف والتمنيات التي أثارتها زيارة ماكرون الأولى، فهو ليس صاحب مشروع بقدر ما هو طالب إنجازات. صحيح أنه في جولته آنذاك ازدرى التركيبة الحاكمة، وصحيح في المقابل أن هذه التركيبة “ومَن وراءها” تدرك حاجته إلى إنجاز، ما يضعها في وضع جيد للمساومة، إن لم يكن لإفراغ الإنجاز الصغير سريعاً من مضمونه، أو تسييره حسبما تقتضي مصالحها أيضاً. بالطبع ذلك لا يضع الطرفين على قدم المساواة، إذ تبقى لماكرون أرجحية الاهتمام بمصلحة لبنان ضمن الحد الأدنى الذي لا تراعيه التركيبة المتحكمة به.

ثمة عامل شديد الأهمية، قد يحكم مصير التحركات الفرنسي في المتوسط ومن ضمنها لبنان، هو العامل الأمريكي. ربما لا يكون من المصادفة أن تنشط باريس مع انشغال واشنطن بالانتخابات الرئاسية، لكن الانشغال الأمريكي لا يعِد بالمكاسب، باستثناء الصغيرة منها، بما أن غالبية اللاعبين في المنطقة تشتغل على الإيقاع الأمريكي، ولن تضبط إيقاعها قبل معرفة الفائز في واشنطن.

المصدر المدن


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا