مايسترو الاقتصاد: تجربة صندوق تمويلي في سورية

يحلو لي أن أوصّف الشخص الذي يدير القطاع المالي في البلد أو الشركة أو المنزل، بـ”المايسترو”، قائد الفرقة الموسيقية والمسؤول عن ضبط إيقاع العديد من الآلات الموسيقية في نوتة موسيقية مكتوبة بعناية، المايسترو في الاقتصاد يحمل ذات المعنى، إن جاز التعبير، عبر تنظيم إيقاع القطاعات الاقتصادية وتنويع الاستثمارات، والمحافظة على بيئة استثمارية جاذبة ونابضة بالعمل والمال. لكل بلد غني أو فقير، متقدم أو نامي، مايسترو اقتصادي يسهم في وضع اقتصاد البلد إما في مصاف الدول المتقدمة أو المتخلفة.

تطور الاقتصاد يعتمد على جودة الجهاز التمويلي وفعاليته بشكل كبير، يتألف هذا الجهاز من مؤسسات ومصارف وشركات وبورصات وأدوات مالية، يتولى إدارة مدخرات السكان ومتابعتها ورسم الخطط اللازمة للتشغيل العام وخلق فرص العمل وتحقيق أهداف التنمية التي تنشدها الحكومة، وكلما كان فعالاً وذو كفاءة سيتشجع السكان على الادخار والاستثمار.

سيُذكر التمويل ابتداءً من ربّ الأسرة الذي يحاول استثمار مدخراته وأخذ عوائد مالية عليها، ولدى الشركة الساعية نحو التوسع والنمو وتحقيق أرباح أعلى وإرضاء المساهمين، وتجدها أيضاً لدى الحكومات التي تعمل على تمويل موازناتها المالية والعجز المالي عبر بيع سندات خزانة، وليس انتهاءً بالمؤسسات الدولية التي تقوم بتمويل الحكومات والمشاريع الربحية وغير الربحية. ويشوب هذا القطاع حساسية بالغة إذ قد تقع الأسرة والشركة والدولة في التعثر المالي والتبعية للغير إذا غرقت في الديون، وقد يُؤدي الإفراط في الاستدانة إلى أزمات مالية لا تُحمد عقباها. جاهداً يحاول المستثمر تحليل البيانات الاقتصادية للتأكد من استقرار الأسعار والعوائد والالتزامات المالية وجاذبية الأوراق المالية.

لكل دولة نموذج تمويلي يتناسب واحتياجاته وموارده وخصوصياته، يلعب رئيس الحكومة أو وزير الاقتصاد دوراً كبيراً في بناء هذا النموذج، كما في ماليزيا، وسنغافورة، وتايوان، وتركيا، وبلدان أخرى تمكنت من نقل اقتصاداتها الزراعية إلى اقتصادات صناعية ووضعها في مصاف الدول الغنية، وقد يكون المايسترو، حاكم البنك المركزي، الذي تقع على عاتقه مسؤولية استقرار الأسعار وإدخال الاقتصاد في حالة ركود أو نمو.

في العام 2008 توجهت أنظار العالم نحو حاكم البنك الفدرالي الأمريكي، بن برنانكي، لسماع السياسات التي ينوي انتهاجها للخروج من الأزمة المالية العالمية التي ضربت العالم في 2008، حيث أقدم لخفض الفائدة من 5.25% إلى 0% خلال أقل من عام، واتبع سياسة مالية غير تقليدية، “التيسير الكمي”، من خلال طرح 1.3 ترليون دولار استخدمها في شراء الأصول المتعثرة.

وبنفس الوقت ستجد الأنظار متجهة إلى روسيا التي غزت أوكرانيا، حيث تقود إلفيرا نابيولينا، حاكمة البنك المركزي الروسي السياسات الاقتصادية لضمان استقرار الأسواق والأسعار، وتجنب حدوث أزمة مالية بسبب الغزو والعقوبات. وبين هذا وذاك تتوجه الأنظار إلى بلدان الحروب وما بعد النزاعات والدول الفقيرة، للبحث عن تجارب أشخاص ومؤسسات تحاول بناء نموذج مالي يساعدها للخروج من عنق الزجاجة ويعزز القدرة التشغيلية في الاقتصاد المحلي.

شهدت رواندا أبشع حروب الإبادة الجماعية التي راح ضحيتها مئات آلاف الأشخاص في تسعينيات القرن الماضي، لكنها تمثل اليوم تجربة ملهمة في التعافي من الصراع والتحول إلى التنمية المستدامة، ويعود هذا في جزء منه إلى المنهجية المتبعة في تعزيز قدرة البنى التحتية والمؤسسات المالية لاستقبال المشاريع وتذليل العقبات، حيث تم تقليص إنشاء نشاط تجاري من 43 يوماً إلى 4 أيام، وتصدرت مؤشر الدول الإفريقية في استقطاب رجال الأعمال، وباتت رائدة في توظيف التكنولوجيا في المجال الاقتصادي، ودعمت بنية القطاع الخاص، وشجعت إطلاق الأفكار المبتكرة والمشاريع الناشئة والسياحة.

واليوم، لا يوجد ما يمنع مناطق المعارضة في شمال سورية لإيجاد المايسترو الخاص بها، شخصاً أو شركة أو منظمة أو حكومة، والعمل على تسريع عملية التعافي الاقتصادي المبكر وإخراجها من تبعات الحرب وبناء نموذج يتلائم مع ظروف المنطقة القاسية. هناك عدة تحديات في هذا الإطار بينها تعدد العملات المستخدمة وعدم استقرار الأسعار، وهشاشة بنية المؤسسات المالية والإدارية، وضعف التشبيك مع سلاسل القيمة المضافة في الخارج وغيرها.

أخيراً! لابد من الإشارة إلى “صندوق حياة” إحدى المؤسسات العاملة في إطار قطاع التمويل في جرابلس والأتارب، التي تقدم قروضاً صغيرة ومتناهية الصغر للأفراد والمجموعات لتنفيذ مشاريع صناعية وخدمية وتجارية، تستهدف فئة المستفيدين من الفقراء أو المعرضين للفقر ممن لا يستطيعون الوصول إلى المؤسسات المالية الرسمية، تقدم قروضاً ميسرة بواقع 1200 إلى 1500 دولار لكل مستفيد، بدون فائدة أو ربح، على أن يقوم المستفيد بسداد المبلغ شهرياً على أقساط، وتتنوع المشاريع المنفذة بين تجارية وحيوانية وخدمية وصناعية، استفاد من البرنامج نحو 3272 مستفيد مباشر (21483 مستفيد غير مباشر) بلغت قيمة المحفظة الإجمالي 3.416 مليون دولار، كما بلغ معدل سداد تلك القروض 99.81%.

تؤكد أرقام الاسترداد العالية على نجاح التجربة وقدرتها على توفير فرص عمل مناسبة للسكان، وسيكون من المجدي تأسيس صناديق تمويل مشابهة لدى المنظمات الإغاثية تعمل على تبني أفكار الشباب وتنمية أعمالهم ورفدها بالتدريب المطلوب، وتمويلهم قروضاً صغيرة ومتناهية الصغر، بعد فترة قصيرة سترى المنطقة بدون سابق إنذار المايسترو الخاص بها لضبط إيقاع الاقتصاد وتطويره.

المصدر السورية.نت


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا