ما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا

يبدو أن قرار الحرب على أوكرانيا اتخذه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، قبل مدّة ليست قصيرة، على الرغم من نفيه وتأكيداته أنه لا ينوي القيام بأي عمل عسكري ضدها، بعكس ما كان يردّده المسؤولون في واشنطن ومعظم العواصم الغربية، حيث تؤكد الوقائع على الأرض أنه أعدّ له جيداً في الفترة الماضية، وسخّر كل الإمكانات العسكرية الروسية من أجل غزو أوكرانيا، واستخدم جميع الجبهات المتاحة، سواء من الحدود الروسية، أو من جهة شبه جزيرة القرم على البحر الأسود، أو من الحدود البيلاروسية.

الغزو الروسي لأوكرانيا مناسبة لطرح أسئلة عديدة عن مرحلة ما بعده، لكونه يمثل نقطة تحول في طبيعة الصراع على أوكرانيا وما حولها، وعلى دخوله مرحلة نوعية في سياق المواجهة الروسية الأميركية على مناطق النفوذ والسيطرة في القارّة الأوروبية، قد يترتب عنها نشوء توازنات وخرائط لكيانات جديدة في منطقة أوروبا الشرقية وما حولها، خصوصاً أن بوتين اتخذ قرار الاعتراف باستقلال منطقتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا، بوصفه مُقدّمة لانطلاق العمليات العسكرية الروسية، وتكريساً لواقع جديد، وبالقوة، في أوكرانيا، الأمر الذي يعيد إلى الأذهان تكرار سيناريو اجتياح الجيش الروسي جورجيا عام 2008، وما تبعه من اعتراف روسيا باستقلال إقليمَي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية جمهوريتين، وفصلهما عن جورجيا.

ويبدو أن الغزو الروسي لأوكرانيا لن يتوقف إلا باجتياحها بالكامل، أو على الأقل قضم مساحات واسعة منها، خصوصاً أنه سبق لروسيا أن أرسلت قواتها متخفية في مطلع عام 2014 إلى شبه جزيرة القرم، وتعاونت مع مليشيات موالية لها بالسيطرة على مفاصلها الاستراتيجية، ثم أعلن الساسة الروس في 18 مارس/ آذار من العام نفسه ضمّ شبه جزيرة القرم إلى روسيا الاتحادية، وذلك رداً على احتجاجات شعبية أطاحت الرئيس الأوكراني الموالي لها فيكتور يانوكوفيتش.

ولم يجهد بوتين نفسه كثيراً في البحث عن ذرائع للغزو، بل حدّدها في خطاب إعلانه الحرب على أوكرانيا بهدفين فضفاضين: نزع سلاحها وتدمير قدراتها العسكرية، ومحاسبة المسؤولين “النازيين” الذين استهدفوا المدنيين الروس بعد إعلان انفصال منطقتي دونيتسك ولوغانسك. لكن الأهداف البعيدة يجسّدها ما أعلنه، في خطابه المتلفز الذي برّر فيه للروس وللعالم دوافعه للاعتراف باستقلال المنطقتين عن أوكرانيا، إذ لم تكن زلّة لسان ما قاله عن سعيه لاستعادة “روسيا التاريخية”، واعتباره أن أوكرانيا “مهد” الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، ولم يكن لها وجود في التاريخ، لكونها صنيعة الزعيم البلشفي، فلاديمير لينين، وأنها من المناطق التي خسرتها روسيا أو سُرقت منها. فيما تدحض وقائع التاريخ وحقائقه كل مزاعمه، فالعاصمة الأوكرانية كييف أقدم تاريخياً من عاصمة روسيا نفسها.

ولا يخفى على أحد النهج التوسّعي للرئيس الروسي، إذ سبق أن استخدم جيش بلاده في غزو بلدان عديدة منذ وصوله إلى منصب رئيس الوزراء عام 1999، حيث بدأ التدخل العسكري الروسي في كوسوفو وفي جمهورية الشيشان في العام نفسه، ثم امتد ليطاول جورجيا عام 2008، وجزيرة القرم في 2014، وصولاً إلى التدخل العسكري المباشر إلى جانب نظام الأسد في سورية عام 2015، الأمر الذي يشي بأن الهدف الفعلي من هذه التدخلات العسكرية ليس فقط حفظ المصالح الروسية، بل أيضاً تحقيق مطامع توسعية إمبراطورية في إطار الصراع مع دول الغرب وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، وعلى حساب حقوق الشعوب التي تدفع من دماء أبنائها فاتورة هذه التدخلات والأطماع القيصرية.

وبالنظر إلى أن بوتين يعدّ انهيار الاتحاد السوفييتي “أكبر كارثة جيوسياسية” في القرن الـعشرين المنصرم، فقد جنّد فعلياً كل ما أمكنه في محاولاته التوسعية، من أجل احتلال روسيا مواقع جيوسياسة في مناطق عديدة، على الرغم من نفيه الطموحات الإمبراطورية التي يسعى لتحقيقها من خلال سلسلة من التدخلات العسكرية الخارجية المباشرة في الشيشان وكوسوفو وجورجيا والقرم وسورية وأوكرانيا، وغير المباشرة عبر استخدام مرتزقة “فاغنر” في ليبيا وسوى ذلك.

في المقابل، لا تقف مواقف حلف الناتو، والغرب عموماً، عند حدود ضم أوكرانيا إلى حلف الناتو، بل يحدوها الاستمرار في توسيعه والامتداد ليشمل بلداناً أخرى في أوروبا الشرقية، اعتماداً على مقولة الحق السيادي للدول في خياراتها، لكن الأمر ليس يسيراً في كل الحالات والأوقات، وخصوصاً في الحالة الأوكرانية، إذ بسبب موقعها في النظام العالمي لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وعدم حل قضايا أمنها ووجهتها، تحوّلت إلى بؤرة توتر خطيرة في أوروبا، وباتت ميدان صراع تتصادم فيه مصالح روسيا والغرب، حيث اعتقد صنّاع القرار في الولايات المتحدة، خلال العقود الماضية، أنهم قادرون على ضمان سيطرة أوكرانيا على مصيرها من دون أن يتكلفوا شيئاً أو أن يبذلوا أي جهد يُذكر، فيما أظهر واقع الحال بطلان اعتقادهم، وأن محاولتهم توسيع “الـناتو” كي يضم أوكرانيا أفضت إلى تفاقم الصراع مع روسيا، بدل أن تخفّف من حدّته، لذلك لم يتجاوز ردّهم على الغزو الروسي إعلانهم فرض عقوبات اقتصادية أميركية وأوروبية، لن تقدّم أو تؤخّر في الوضع القائم، ولن تفيد شيئاً حيال الغزو.

ويظهر اكتفاء الغرب بإشهار سلاح العقوبات الاقتصادية بوجه روسيا حيرة ساسة الولايات المتحدة والغرب حيال أفعالها، في ظل تباين المواقف وعدم اليقين في كيفية اتخاذ مواقف فعالة ضدها، فضلاً عن أن روسيا اعتادت العقوبات، مثلما قال وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف. لكن الأهم، أن ساسة الغرب، خلال أكثر من ربع قرن مضى، فشلوا في تأسيس نظام مستدام في فترة ما بعد الحرب الباردة في أوروبا، حيث شكّلت أوكرانيا، في أعين معظم واضعي السياسات الأميركية، الدولة التي يمكنها التخلص من عبء التاريخ والسير وحدها نحو نهايته، فلم يقدّموا إجابات بشأن موقع أوكرانيا في النظام العالمي الجديد، ودورها في الصراع بين روسيا والولايات المتحدة، وكان همهم في عام 1991، وبعد سقوط جدار برلين وانهيار حلف وارسو بعد ذلك، التخلص من الأسلحة النووية التي ورثتها عن الاتحاد السوفياتي، والتقت مصالح ساسة الولايات المتحدة مع مصالح الساسة الروس في العمل على نزع سلاحها النووي، وتمكّنوا من فعل ذلك، من خلال توقيع أوكرانيا في عام 1994 على مذكرة بودابست، ومن دون أن يقدّموا، في المقابل، أي ضمانات أمنية لها مقابل تخليها عن كل أسلحتها، وبعدها لم تعد أوكرانيا ضمن أولويات الولايات المتحدة.

وقد وجد بوتين في غزو أوكرانيا ومواقف الغرب حيالها ما قد يشكّل فرصة لتحقيق بعض أحلامه في استعادة أمجاد الماضي الإمبراطوري، وللردّ على الهزيمة التي شكلتها الثورة البرتقالية بالنسبة إليه، التي أسهمت في اندلاع “ثورات ملونة” في كل من جورجيا وقرغيزستان وغيرهما، واعتبرها بوتين تهديداً لاستقرار نظامه، لذا أطلق العنان لتنفيذ مخططاته باجتياح أوكرانيا وزعزعة استقرارها، لكن الأمر قد لا يقف عند هذا الحد، بل قد يتعدّاه إلى إرسال قواته العسكرية إلى مناطق أخرى، وبما ينذر بأن مرحلة ما بعد غزو أوكرانيا قد تمتد إلى محاولة إعادة دول أخرى من الاتحاد السوفييتي السابق إلى الهيمنة الروسية، ضمن مشروع روسيا البوتينية الساعي لاستعادة الإمبراطورية القيصرية.

المصدر العربي الجديد


المواد المنشورة والمترجمة على الموقع تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر مؤسسة السورية.نت

قد يعجبك أيضا